د. محمد عبدالله العوين
قد يتبادر إلى أذهان كثيرين ممن يقرؤون هذه المقالة أنني أحمل على تخصصات علمية موجودة في جل جامعاتنا؛ إما تحت مظلة كلية باسم التخصص نفسه، أو أنها مدرجة ضمن العلوم التي يدرسها الطالب حتى وإن لم تكن ضمن تخصصه الدقيق.
علوم رفيعة القدر عظيمة الشأن ولا نتمنى لها أن تضعف أو أن يزهد فيها الدارسون؛ ولكننا أيضًا أمام مسألتين مهمتين؛ مدى احتياج المجتمع إلى هذه التخصصات النظرية، والتأكَّد من تحقق رغبة الطالب الجامعي في أي من هذه العلوم؛ لأن رغبته ستيسر عليه أسباب التفوق وستهل له الطريق إلى استيعاب ما أقبل عليه بحب؛ على حين سيكون التخصص الذي وقر في ذهن الطالب أن لا مستقبل وظيفيًا له وأكره عليه من قبل عمادة القبول والتسجيل نكدًا في مسيرته الجامعية، وربما عقبة كأداء تلاحقه بعد التخرج حين يطرق أبواب الوظيفة، وحتى لو ساعده الحظ بوجود وظيفة شاغرة في تخصصه فإنه أيضًا سيكرر ما شقي به حين كان طالبًا على مقعد الوظيفة التعليمية في المدارس أو غيرها من الوظائف الشحيحة التي تناسب تخصصه في العلوم النظرية.
إن المعول عليه في إبقاء أو إلغاء أو تقليص أي علم يدرس في الجامعات هو نبض سوق العمل وحاجة المجتمع وخطط التنمية وسعي الدولة إلى تقليص حجم البطالة بالسرعة الممكنة وإتاحة فرص وظيفية جديدة أمام آلاف الخريجين كل سنة في المهن والتخصصات التي ما زال مجتمعنا في حاجة ماسة لها؛ كالطب والخدمات الطبية المساعدة مثل التمريض والأشعة والعلاج الطبيعي والصيدلة والمختبرات والتغذية والتأهيل النفسي والاجتماعي وغيرها كثير مما يدخل في نطاق التطبيب، وما زلنا في حاجة ماسة إلى مزيد من الدارسين الممتازين المميزين في القطاعات الصناعية العسكرية الدقيقة على اختلافها وكثرتها كالطيران وأسلحة الفضاء والصواريخ والأشعة الحربية وغيرها، وما زلنا في حاجة إلى متخصصين في تقنية النانو على اختلاف وظائفها العسكرية والطبية وغيرها، وفي حاجة إلى مزيد من المهندسين في كل فروع الهندسة، وإلى خبراء في علوم الحاسب الآلي وتطوراته المتلاحقة، وعلوم الزراعة والمياه وكل ما يتصل بالتخصصات العلمية التطبيقية؛ ولكن عددًا كبيرًا من جامعاتنا ولا أريد أن أسميها ما زالت تسير على منهجها القديم الذي أنشئت عليه قبل ستين عامًا دون أن تراعي القفزات والتحولات التنموية التي يمر بها الوطن، وإن ما كان يحتاجه أمس بعشرات الآلاف من دارسي علوم اللغة العربية بتخصصاتها المتعددة وعلم النفس والجغرافيا والتاريخ والتربية وما يماثل هذه العلوم النظرية قد لا يحتاج الآن إلى تلك الأعداد الهائلة التي تصل إلى الآلاف في كل تخصص كما كان الأمر قديمًا قبل ثلاثين عامًا أو يزيد؛ بل يظل الآلاف من دارسي تلك العلوم سنوات في انتظار فرصة عمل مناسبة، وإن حصلت بعد طول انتظار؛ فإن عطاءها المادي الضئيل لا يعادل السنوات التي قضاها الطالب في التحصيل.
ويزيد الأمر سوءًا أن كثيرين من الطلاب - وقد شكا إلى بعضهم - يُكرهون إكراهًا من قبل عمادات القبول والتسجيل على درس علوم لا يريدونها، حين يرى بعض المسؤولين عن القبول أن ثمة تخصصات لم يقبل عليها أحد فيعمد إلى ملئها بعدد من الطلاب الذين حال ضعف درجاتهم ونسبهم المتدنية من التحاقهم بالتخصصات العلمية التطبيقية التي يطمحون إليها؛ فيقال لهم: ما عندكم إلا هذه الكلية أو هذا التخصص وإلا لن تلتحقوا بالدراسة الجامعية، وأحدهم قال لي: إن مسؤولاً عن القبول قال له: أحمد ربك أنك وجدت مقعدًا، وإلا ليس أمامك إلا الشارع!
إنني أرى ألا جدوى أبدًا من محاولة بعض الجامعات دفق ماء الحياة ولو كرها في تخصصات ميتة، والأفضل الاعتراف بما طرأ على المجتمع من تحولات في سوق العمل وضم بعض التخصصات إلى بعض وإغلاق ما تشبع منه المجتمع إلى حين، أو تقليل عدد الطلاب فيه بشرط إقبال الدارسين بحب ورغبة لا إكراه ورهبة!.