د. عبد الرحيم محمود جاموس ">
على مدى الأسبوعين المنصرمين بل منذ ألقى الرئيس الفلسطيني عصاه في الجمعية العامة للأمم المتحدة في 2015/09/30م، وأنا أتابع ما يكتب في الصحافة العربية والفلسطينية ورقياً وإلكترونياً، علني أجد فهماً ناضجاً لتقديم التفسير الواضح لما يجري على الأرض من جهة داخل الأراضي الفلسطينية، وفي أروقة السياسة الإقليمية والدولية من جهة أخرى، لكن لسوء الحظ لم أجد تلك القراءة العلمية، القادرة على صياغة تصور كمي ونوعي وعلمي يوضع بين يدي أبناء الشعب الفلسطيني والأمة العربية على المستوى الشعبي أو على المستوى الرسمي لما يجري، لأجل صياغة تحرك فلسطيني عربي، على المستوى الوطني والقومي والدولي، لإستثمار مجمل التغيرات الجارية في إقليم الشرق أوسطي عامة والعربي خاصة، لإعادة الإعتبار للقضية الفلسطينية، فقد إنشغل الكتاب والمحللون على صفحات الجرائد أو المواقع الإلكترونية وشاشات التلفزة.. إما بالتنظير للمقاومة ونبذ كل أشكال التفاوض، ونبذ كل أشكال المقاومة السلمية واعتبارهما من مصدر واحد، وبالتالي الاحتكام للمقولة الشهيرة ((ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة))، ويقفز في ذهن هؤلاء الشكل التجريدي للقوة العسكرية القادرة وحدها على كسر القوة العسكرية الإسرائيلية، وهنا يجرِ تغييب كافة أشكال القوة الناعمة والسلمية والقادرة بالفعل على إعادة القضية الفلسطينية إلى سلم الأولويات العربية والدولية، وفرض الإستحقاقات الوطنية الفلسطينية على الكيان الصهيوني وعلى العالم.
من هنا كانت انتقادات أصحاب هذا التيار، لعصاة الرئيس الفلسطيني وتبخيسهم لرؤيته السياسية التي كانت موجعة بالفعل للكيان الصهيوني أكثر بكثير من تلك الصواريخ العبثية والقنابل الكلامية التي يفجرها أصحابها على شاشات التلفزة أو على صفحات الجرائد والمواقع الإليكترونية..!!!
البعض الآخر من الكتاب والمحللون انشغلوا بنقاشات فلسفية عدمية في قراءة ما يحصل من مواجهات باتت شبه يومية، بدأت في القدس والحرم القدسي وامتدت إلى جميع الأراضي المحتلة بل شملت كامل فلسطين، هل هي هبة أمْ انتفاضة، لدرجة أن بعض الكوادر المناضلة القديمة، وصفوا ما يحصل بأنه أكثر من هبة وأقل من انتفاضة، أو بعضهم أطلق عليها تعبير غضبة، وكأن المشكلة تكمن في التوصيف لما يجري وتسميته، وليس في كيفية إدارة الصراع وتطوراته مع العدو، والتهيئة الشعبية اللازمة لديمومة الفعل الثوري الفلسطيني، سواء على مستوى المواجهات على الأرض أو على مستوى المواجهة السياسية والدبلوماسية والتي لا تقل أهمية عن الأولى.
إن طبيعة الصراع الجاري على الأرض الفلسطينية بين الكيان الصهيوني، مدعماً من قوى الإستعمار الدولية والفاشية العنصرية الغربية من جهة، وبين الوطنية الفلسطينية ومحيطها العربي والإسلامي والمدعمة من جميع القوى التحررية والتقدمية العالمية والمحبة للسلام والمناهضة للعنصرية، يؤكد أن الخيارات الشعبية والسلمية والسياسية والدبلوماسية ستكون هي الأنجح في مواجهة الآلة العسكرية الصهيونية الإستعمارية وإفرازاتها من إستيطان وجدار..الخ، خصوصاً وأن العنصرية الفاشية في البناء السياسي والمؤسساتي للكيان الصهيوني تتواصل يوماً بعد يوم، الشيء الذي يسهم في انكشاف حقيقته العدوانية المرفوضة من كافة بني البشر الذين يرفضون مثل هذه الفلسفات العنصرية الطوطمية التي يشيد بناءه على أساسها.
إن السلام الحقيقي هو الذي ينهي السياسات الصهيونية القائمة على أساس التوسع والاستيطان والعنصرية والإقرار بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني في وطنه، سيؤدي لا محالة إلى إنهاء الكيان الصهيوني، لذلك يعمل الكيان الصهيوني جاهداً على تدمير جميع فرص وآليات السلام من مفاوضات وغيرها، كما أنه يرفض أن ينحو النضال الوطني الفلسطيني نحواً شعبياً سلمياً، ويدفعه دفعاً إلى الميدان الذي يحقق فيه غاياته، وهو العنف المسلح حيث يكون له فيه التفوق ويتمكن من إلحاق الهزيمة بالقوى المسلحة، سواء كانت شعبية أو نظامية، وبالتالي إن استمرار المراوحة في الخيارات ما بين المقاومة المسلحة والمقاومة الشعبية السلمية، يبقى الوضع في المنطقة الرمادية.. وهنا تنصب الجهود السياسية الإقليمية والدولية على الجانبين من أجل التهدئة، وكأن التهدئة بحد ذاتها تصبح هي الهدف لكل الأطراف، وإعادة الأوضاع وإبقائها على ما هي عليه دون حل، وهذا أيضاً يخدم بشكل مباشر سياسات الكيان الصهيوني وأهدافه في استمرار التوسع والاستيطان وإنكار الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني.
المطلوب توفره باختصار شديد إجماعاً فلسطينياً حول رؤية سياسية موحدة تحدد ماذا يريد الشعب الفلسطيني في هذه المرحلة، وكيف له أن يحقق ما يريد، وأن تكون الرؤيا السياسية وآليات العمل والنضال الفلسطيني لتحقيقها أيضاً محل إجماع فلسطيني وعربي، وأن يجري الالتزام بها، وتوحيد صفوف الشعب الفلسطيني، وإنهاء الانقسام القائم جغرافياً ورؤيوياً، وعندها تتجمع القوى الشعبية الفلسطينية في إطار الفصائل والاتحادات الشعبية والنقابية الفلسطينية ومنظمات المجتمع المدني، في إطار م.ت.ف في برنامج كفاح شعبي سلمي عمودي وأفقي يضم كافة فئات المجتمع وعلى مستوى الوطن والشتات، ويستمر الكفاح والنضال الشعبي السلمي دون أن تتوقف الحياة اليومية للشعب الفلسطيني، ودون إنزلاق الوضع إلى ما يشتهيه العدو، والعمل على ما يخدم أهداف الشعب الفلسطيني في إنهاء الإحتلال وإقامة الدولة، بل والسعي إلى إسقاط المشروع الصهيوني برمته، عبر مد وتطوير كافة أشكال النضال الشعبي إلى جميع أنحاء فلسطين، وإشراك قوى السلام اليهودية المناهضة للعنصرية والفاشية الصهيونية، للوصول إلى الحل النهائي والتاريخي الذي لن يقوم إلا على أساس دولة واحدة موحدة على كامل إقليم فلسطين، يعيش فيها وعليها الجميع، على أسس من المساواة التامة، بعيداً عن كل أشكال التمييز العنصري، سواء على أساس اللون أو العرق أو الدين، وهنا تتحقق كافة الأماني والتطلعات للشعب الفلسطيني وللآخرين، في إنهاء أبشع أشكال الاستعمار وآخرها على سطح الأرض في فلسطين.
فلينصب الجهد على كيفية تطوير هذه الهبة أو الغضبة كي تتحول إلى منهج حياة مقاوم ومستمر للاحتلال والإستيطان والعنصرية والفاشية الصهيونية، والسعي إقليمياً ودولياً إلى تدويل الصراع عبر كافة المؤسسات الإقليمية والدولية الشعبية والرسمية، حتى يلاقي الكيان الصهيوني نفس المصير الذي آل إليه النظام العنصري في جنوب إفريقيا.