تشكَّل القصة جزءاً حيوياً من تاريخ الأمم، إن لم تكن أداة من أدوات تسجيل التاريخ، ومرآةً لحياة المجتمعات الإنسانية وسجلاً لمآثرها وإرثها، ووثيقةً ناطقةً بما وصلت إليه من رقي حضاري وأدبي. والناظر إلى بواكير فن القصة في الأدب القديم يقف مشدوهاً أمام الإبداع القصصي في الحضارة المصرية القديمة، وهو جزءٌ من التراث الأدبي لهذه الحضارة العتيقة، الذي يوازي في رقيّه التراث المادي الذي خلَّفته في شتى مناحي الحياة التطبيقية. ومكمن الدهشة هي البداية الرائدة للقصة والتي تركت آثارها على الإبداع القصصي في الحضارات اللاحقة عليها ومهدت له. ولعل هذه الريادة جاءت من كون الحضارة المصرية القديمة هي أول الحضارت الإنسانية التي عرفت مبادئ الكتابة، وابتدعت حروفها، وصنعت الألواح الحاملة لها، ورافق هذا كله حرصٌ أو ولعٌ بالتدوين لتسجيل أحداث الحياة وتصورات ما بعد الموت.
والأعمال القصصية التي وجدت مُدوَّنة على أوراق البردي، أو منقوشة على الحجر في المعابد والمقابر، هي جزءٌ من هذا التراث الرائد. ومن المرجَّح أن ما وصل إلينا منها أقل كثيراً من تلك التي عرفها قدماء المصريين أنفسهم؛ لأن معظم القصص كانت عادةً محكيّة شفاهية، ولم يصل إلينا منها إلا ما تم تدوينه وبقي لنا محفوظاً.
ولقد شاب القصة في بداياتها تأثرها الواضح بالغرض الوظيفي منها، فكانت أداة وظيفية لا أكثر تؤدي دورها المساعد في تثبيت العقيدة وتوثيق عرى الدين أو تخليد الذكر وتسجيل المآثر، ولم تكن عملاً إبداعياً خالصاً. فلم تخل القصة في مضمونها من أهداف ورسائل دينية، واجتماعية، وأخلاقية، تأتي مباشرة على ألسنة أبطالها أو في ثنايا أحداثها. وهي تمثل البدايات الأولى لأدب القصة والرواية في تاريخ الأدب العالمي.. والقارئ لها سوف يرى صورة حية عن الحياة في مصر القديمة، ومرآة صادقة عن المصري القديم، وأخلاقه، وتدينه، وأفكاره، ومشاعره، وتعاملاته مع غيره، وتفاعله مع الطبيعة المحيطة به، ورؤيته للحياة بشكل عام. ولقد كان لمثل هذه القصص المصرية القديمة صداها وأثرها في أدب العالم القديم وقصصه، وفي القصص الكلاسيكية في العصور الوسطى.
وقد احتفظ باطن الأرض، كما احتفظت جدران المقابر والمعابد القديمة، وسجلات المؤرخين والرحالة اللاحقين، بالكثير من البواكير القصصية القديمة، والتي اكتملت فيها ملامح ما عرف فيما بعد بفن القصة. ووصلت إلينا العديد من نماذجها التي تميزت بثرائها، وتنوعها التاريخي والبنائي، ومن أمثلتها: أسطورة «ايزيس وأوزوريس»، وقصة «خوفو والسحرة»، وقصة «الأخَوَان»، وقصة «سنوهي» وقصة «الفلاح الفصيح» وقصة «الحق والباطل» وقصة «الملاح الغريق» وقصة «الفتى وأقداره الثلاثة».. وغيرها من القصص.
والقارئ لهذه القصص يجد أنها تعالج الكثير من الصراعات النفسية، والطبائع البشرية في بساطة معبرة، وتكشف لنا عن حياة أفراد المجتمع اليومية سواءٌ في أعمال الحقل، أو الأعمال المنزلية، أو التجارة والمعاملات المادية، أو الملاحة عبر البحار. كما تمدنا بمعرفة أنواع من الزروع والنباتات، والأماكن والأسماء وغيرها من المعارف. وتلقى الضوء على حياة القصور ورفاهية الأمراء والأثرياء، وكذلك حياة البسطاء من الفلاحين، والخدم، وعامة الشعب. وتعطي صورة عن أنشطة الحياة المختلفة، مثل: تعليم الأطفال في المدارس، والكهانة، والسحر، والحياة العسكرية، وحياة الصحراء والبادية، وعلى العديد من العادات، والمعتقدات، التي كانت سائدة في مصر القديمة.. بالإضافة إلى ما تعكسه من المشاعر الإنسانية، مثل: العطف والحنو، والعفو، والحزن، والفرح، والخوف، والحنين إلى الوطن... وغيرها. هذا بجانب ما تجمله في طياتها من مُثُل وقيم اتصفت بها الحياة في مصر القديمة.
ولعل أبرز ما في هذه القصص تلك المعالجة البسيطة للصراع الأزلي بين ثنائية الخير والشر، أو الحق والباطل. ولعلنا نلحظ ذلك بوضوح في أسطورة «إيزيس وأوزوريس» وقصة «الحق والباطل». والأولى من أشهر الأساطير المصرية القديمة، التي خلَّد فيها المصريون القدماء ما يعزّ عليهم، وما يقدِّرونه من قيم وأشياء. وقد سُجِّلت أول ما سجِّلت في سياق بعض نصوص أو متون الأهرامات، التي ظهرت على جدران غرف الدفن بالأهرامات نهاية الأسرة الخامسة (2498-2345 ق.م)، نقلاً بطبيعة الحال عن عصور أسبق منها. واستمر رواة كل جيل يضيفون إليها من خيالهم. وجوهر الأسطورة يعكس الصراع الأزلى والأبدى بين الخير والشر، في صورة الأخ المسالم الوديع رمز الخير والحق «أوزيريس»، والأخ الشرير الحاسد «ست». ولم تتركنا الأسطورة نقع في شَرَك سطوة الشر وجبروته وقسوته دون أن تضع نهاية له تنتهى بتغلب الحق، وبقاء الخير وانتصاره، واسترداد ما له من حقوق سليبة وميراث ضائع. ولعل هذا المفهوم لدى المصري القديم، قد رسخ لديه وصار من العقائد المألوفة في قصصه والمؤكدة في حياته.
وتعكس الأسطورة إيمان المصرى القديم بالقدر وبعدالة السماء. كما أنها أيضاً تُعد آية من الآيات التي تخلد مشاعر نبيله تجسدت في شخصية إيزيس الزوجة والأم، مثل: الحب الحقيقي، والوفاء الصادق، والإرادة القوية التي لم ينل منها طول البحث أو عنائه، وما اعترضه من صعوبات ومشقة. وكذلك الأمومة الحانية المسؤولة، التي لا تقصر في واجباتها تجاه ابنها وترعاه حتى يشبّ ويصير رجلاً يتحمل المسؤولية، وتقف إلى جواره بكل ما تملك للمطالبة بحقوقه والاستماتة في الحصول عليها.
وبعض هذه القصص يتصف بالواقعية، وأحداثها قد وقعت بالفعل، وتمثل سجلاً تاريخياً للعصر الذي كتبت فيه، بظروفه السياسية والاجتماعية والاقتصادية. ومنها قصة «سنوهي»، وهي قصة لتجربة شخصية ترجع إلى عصر الأسرة الثانية عشر (1991-1786 ق.م تقريباً)، وظلت تُنسخ وتُقرأ نحو 500 سنة في المدارس المصرية القديمة، ومنها نسخة محفوظة بمتحف برلين بألمانيا. و»سنوهي» هذا، رجل من بلاط الملك «أمنمحات الأول» (1991-1962ق.م) وولي عهده «سنوسرت الأول». هرب من مصر، إلى صحراء بلاد الشام، عند موت الملك خوفاً من أن يكون طرفاً في صراع سياسي أو نزاع على السلطة استشعر قدومه بين الأمراء الورثة. وتصف هذه القصة بأسلوب جذاب ما مرت به حياة سنوهي، والصعاب والمشاق التي عاناها طوال هروبه، وصراعه مع منافس غيور، وانتصاره عليه واستيلائه على ممتلكاته، والرخاء الذي تمتع به. غير أنه لم ينس وطنه البعيد فقد ظل أسير الحنين والشوق إليه. وبعد استقرار الأوضاع في مصر، وبعد أن أبدى اعتذاره واقتنع الملك الجديد بمبرراته، أصدر قراراً بالعفو عنه والعودة إلى وطنه. ثم تصور القصة وصوله إلى البلاط الملكي وتهيّبه للقاء الملك الذي دُهش لهيئته البدوية، ثم حياته الجديدة التى منحها له الملك، والمقبرة الفخمة التي أُعدت له بجانب مقابر الأمراء الملكيين.
ونجحت القصة في تصوير الكثير من المشاعر الإنسانية مثل؛ الخوف، والرجاء، والحنين، والكرم، والإحساس بالغربة والوحشة، والفرحة بالعودة إلى الوطن.كما أفصحت عن بعض جوانب الحياة السياسية والعسكرية، مثل: خروج الحملات العسكرية لتأمين الحدود، وتأديب المغيرين من القبائل، وإنشاء القلاع والحصون على الحدود لصد غارات المغيرين، ووجود ما يطلق عليه اليوم بقوات شرطة أو حرس الحدود.
وأشارت القصة إلى حياة البادية وما فيها من صفات حميدة، مثل: النجدة، والشهامة، والكرم، والشفقة، والشجاعة، وصفات ذميمة، مثل: الإغارة على الغير، والسطو على أملاك الآخرين، وتعدى القوي على الضعيف.
وقد تجمع القصة الواحدة في أحداثها ما يمكن أن يحدث في واقع الحياة وما لا يمكن أن يحدث إلا في عالم الخيال والأساطير أو المعجزات. ومثال ذلك: قصة «الأخوان»، والتي تعد من روائع الأعمال الأدبية الإنسانية في العالم القديم، فهي تعالج الكثير من المشكلات الإنسانية كالإخوة، والإخلاص، والخيانة، والصراع البشرى. وترجع إلى عصر الأسرة التاسعة عشر (1292-1187ق.م). وتدور أحداثهاحول أخين مات أبوهما، وكانا يعيشان معاً حياة هادئة في بيت ريفي. يعتني الأكبر فيهما بأخيه الأصغر، ويقوم مقام الأب له، بينما يساعد الصغير أخاه الكبير في أعمال الحقل. وتمر الأيام ويكَبُر الصغير حتى يصير شاباً فتياً قوي البنيان، ويتزوج الأخ الأكبر. وبعد فترة، تقوم زوجته، بالوقيعة بينهما مدعية زوراً أنه أراد الاعتداء عليها، ليهجر الصغير أخاه، متوجها إلى بلاد الأَرْز «لبنان»، يعيش فيها وحيداً ويتخذ زوجة له. وبهذا ينتهي الجزء الذي يمكن أن يكون واقعياً ويحدث في كل مجتمع إنساني، لكن القصة تنحى بعد ذلك منحىً خيالياً لتجنح المعالجة الدرامية إلى الغرابة والخيال. إذ ما تلبث زوجة الأخ الصغير أن تخونه لتتركه وتذهب إلى فرعون مصر الذي أغراها بالذهب، لتدور الأحداث في إطار خيالي ميتافيزيقي إلى أن يتبعها زوجها إلى مصر ويثأر منها ويعود إلى أخيه الذي عاش وحيداً بعد قتل زوجته الخائنة هي الأخرى. وهى قصة إنسانية، اجتماعية توضح كثيراً من ملامح الحياة الريفية، والاجتماعية، والسياسية في مصر القديمة.
وقد تصل القصة إلى مرحلة الاكتمال من ناحية البناء الفني من حيث تطور الحدث وتصاعده حتى الذروة، حيث العقدة ثم الحل. هذا بالإضافة إلى الصياغة اللفظية التصويرية الجميلة التي ترتقي في بعض أجزائها إلى مرتبة النثر الشعري الرائق. ونعني بذلك قصة «الفلاح الفصيح»، التي ترسم صورة حية وناطقة عن الوضع الاجتماعي، والإداري، والاقتصادي لعصرها، وتضمنت في طياتها تهكم لاذع يميل إليه المصريون القدماء بسليقتهم. وتنطوي القصة على أولى تجارب الإنسان القديم في المطالبة بحقوقه وتحقيق العدالة الاجتماعية. وتوجد منها أربع نسخ مدونة على البردي، ثلاثٌمنها محفوظة بمتحف «برلين» بألمانيا، والرابعة بالمتحف البريطاني بلندن. وهي من وثائق الأسرة الثانية عشرة (1991-1786ق.م)، وقد تكون حدثت قبل ذلك. وتروي أن فلاحاً فقيراً وجد أن مخزن غلال أسرته أوشك على النفاد، فترك زوجته وأولاده، وحمل قطيعاً صغيراً من الحمير ببعض سلع قريته يحدوه الأمل أن يقايض ما لديه من بضاعة بالغلال التي تحتاج إليها أسرته. وكان الطريق يحتم عليه أن يمر بضيعة رجل كان موظفاً فاسداً لدى الوزير الأول للفرعون، فدبَّر الموظف حيلة لاغتصاب القافلة بما عليها فقام بإغلاق الطريق بنسيج الكتان ليضطر الفلاح للمرور بحميره، عبر الحقل المزروع بالقمح، فتقضم الحمير الجائعة قضمة من القمح المغري، فيغتصب الموظف الجشع حمير الفلاحوما عليها مقابل ذلك. ولم تجد تبريرات الفلاح المسكين لكي يسترد أشياءه، وقضى أربعة أيام يحاول إقناعه بارجاع حميره وممتلكاته دون جدوى. فقرر رفع شكواه إلى الوزير الأول الذي كان مشهوراً بحبه للعدالة، فاستمع إليه الوزير وتشاور مع موظفيه والشهود الذين انحازوا إلى جانب زميلهم. فخاطبه الفلاح بفصاحة مدهشة اُعجب الوزير بها، وتركه دون أن يقطع في قضيته، وذهب إلى الفرعون وأخبره بما حدث. فأمره الفرعون أن ألاّ يقطع في قضيته برأي رغبة في أن يرتجل الفلاح خطباً أخرى، وأمر بتدوين أقواله بدقهوتولي أمر أسرته. ليواصل الفلاح شكواه إلى تسع شكاوٍ يصل في نهايتها إلى مرحلة اليأس الذي يقوده إلى أن يعلن نيته في الانتحار بعد أن ضاقت به السبل ويأس من تحقيق العدالة، ليجد القارئ النهاية السعيدة تنتظر بطلها، وتتحقق العدالة التي كان ينشدها، ويصبح المظلوم مكان الظالم فيتولى الفلاح منصب الموظف الفاسد الذي لاقى عقابه. والقصة ترسم صورة لميل الموظفين عن جادة العدل والحق، إذام يكن عليهم ملك رشيد عادل يخافون سطوته.
وبعض هذه القصص يتسرب الخيال إلى جُل أحداثها كما في قصة «نجاة الملاح». وهي قصة نلاحظ فيها حبكة فنية تجعلها تتصف بما تتصف به بعض القصص الحديثة من حيث البناء الفني الدائري الذى يلتئم آخره بأوله ليكونا دائرةً مكتملة. بل وتعتمد أيضا على ما يعتمد عليه الفن السينمائي من استرجاع للأحداث فيما يعرف بالفلاش باك Flashback. هذا مع التركيز على بعض المعاني النبيلة مثل التفاؤل وعدم القنوط، وألاَّ يجعل الإنسان لليأس سبيلاً إلى قلبه. وجدت هذه القصة مكتوبة على بردية عثر عليها عام 1880م، وهي محفوظة الآن في متحف الهيرميتاج في روسيا. وتنسب إلى عصر الدولة الوسطى (2055-1650 ق.م تقريباً). والقصة تأخذ القارئ لها في تتابع من الحكي والسرد المتواصل، الذي ينقله من قصة إلى أخرى في تشويق لا يخل بالموضوع. فينقلك الكاتب من القصة الرئيسية للملاح الذي عاد من رحلته خائباً خاسراً يخشى عقاب الملك إلى قصص فرعية مثل قصة التابع وما لاقاه من أهوال، وحكايته مع جزيرة الطعام وثعبانها الهائل، وقصة الثعبان نفسه والشهاب الذي التهم عائلته وتركه وحيداً، ليعود بك في النهاية إلى القصة الرئيسية في دائرة من الحكي القصصي المشوق، والتصوير الدقيق الذي يجعلك وكأنك ترى الأحداث أمام عينك، ومجموعة من المشاعر الإنسانية كالقلق، والخوف، والحزن، والشعور بالوحدة، والفرحة بالعودة إلى الوطن ولقاء الأهل والأحبة. هذه نماذج من بواكير القصة في الأدب القديم أردت أن ألقي الضوء عليها، وأعيد قراءتها بعين غير سردية، ويمكن الرجوع إلى نصوصها الأصلية في العديد من المراجع المتخصصة التي تناولتها.
- د. محمد أبو الفتوح غنيم