محمد خالد العرفج ">
كم يتوق الإنسان إلى الارتقاء الروحي والفكري على حد سواء, فقد عكف منذ الأزل على إعمار الأرض -بالفطرة - وبناء الأسرة والمحافظة عليها من الشرور. واختلفت مصادر تعلمه, منها ما هو رباني, مثل تعليم المولى سبحانه لآدم, ومنها ما هو بالملاحظة والمحاكاة, مثل دفن قابيل أخيه هابيل بعد رؤية الغراب, وأكثر ما يتعلمه الإنسان هو المثال الثاني, ما يكون بالتدريب والتطبيق لما يراه في واقعه.
ما أودعه المولى عز وجل في الإنسان أكبر من أن يُسطر في بطون الكتب, وأكثر من أن يُكتب بمداد حبره بحار الأرض!, قد قيل: «من عرف نفسه فقد عرف ربه», وهذا يستلزم نضجاً فكرياً وروحياً, ومن هنا يكون السبب في الحديث عن الوعي بالوعي.
الوعي كما هو معلوم أنه الإدراك أو الفهم, ولكن هل الإدراك يكفي حتى يسمو الإنسان؟.. الرغبة في التعلم والتطور جبلة في نفس الإنسان, لأن كل ما في الكون يدعوه لذلك, ولا يوجد أشد وأخطر من أن يمتطي الإنسان وعياً زائفاً يقوده إلى طريق مجهول وقد يظن بأنه يمتلك سلاحاً يحارب به الجهل وغالب الظن أنه سيمتنع عن الحق ظناً منه بأنه هو من يُدرك ويعي, على غرار: «لا أريكم إلا ما أرى!».
بسبب الوعي الزائف, هناك أكثر من 400 ديانة في مناطق دول العالم, خصوصاً في المدن الصغرى والمحافظات والقرى. ناهيك عن تفرع المذاهب في كل ديانة, إن شئت أضرب العدد في 3 أو أكثر!, ما الذي دفعهم لذلك؟ (إن يتعبون إلا الظن) تقود الإنسان رغبة ملحة وبحث مستمر عن الكون وخالقه ومنشأ الحياة, لكنه قد يغفل كثيراً بأن الدنيا مرحلة تعلم لن تبلغ الكمال, ودار امتحان لن تدوم لأحد, وحقل خصب للتجارب وطرح الأسئلة التي لن تنتهي.
بسبب الوعي الزائف, هناك تعليم, يقابله الكثير من الجهل, بسبب الوعي الزائف, هناك دين, لكنه لا يتعدى صفحات الكتب, يقابله المتشدقون والعلمانيون, بسبب الوعي الزائف, هناك دعوات للسلام, يقابلها أرواح بريئة أزهقت ولغة ميدانية شعارها: التخريب والتشريد - فرّق تسد!.
الوعي بالوعي يعني أن يُدرك الإنسان ماذا يفعل؟ ولماذا يفعل؟, وكيف يفعل؟ وما هي الغاية من هذا كله؟, الوعي بالوعي أن يعرف ماذا يسأل, ومن يسأل, وكيف يسأل, ولماذا يسأل, لأن الكثير من الأسئلة ليست إلا ثرثرة عقل؛ بل إن معظمها توجد إجاباتها في محركات البحث في الإنترنت أو في لحظة صفاء بعيداً عن الضوضاء.
عندما يهتم الإنسان بالقيم سوف يجني الخير الكثير, هنا تتضح حقيقة الوعي, ونجد هذا واضحاً في حديث المولى عز وجل عن نبيه الكريم وبقية الرسل والصالحين, نأخذ منها على سبيل المثال: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ الأنبياء: 107, فالنبي عليه الصلاة والسلام بُعث رحمة وهذه القيمة العظمى لديه تجعل من كل شخص يتبعه ويحبه بأن يتحلى بهذه الصفة الجليلة.
وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ القلم: 4, وهذا الوصف تم تأكيده مرتين في آية واحدة، فأكده في (إنك)، وأكده باللام وهذا من فضل الله سبحانه على نبيه.
القيم والثوابت هي ما يتحدث عنه القرآن الكريم, والأشخاص رموز لتلك القيم, فعن ماذا يبحث من يرغب بزيادة وعيه والحصول على الحكمة فيما عدا كتاب الله وسنة نبيه المطهرة؟!, وقد ظهرت جلياً متحققة بدعوة الخليل إبراهيم عليه السلام في قوله تعالى: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ البقرة 129.
وتحققت دعوة أبينا إبراهيم في سيدنا محمد عليهما الصلاة والسلام, ومن ابتغى العلم فسيجده في أي مكان, وأما من ابتغى الحكمة, فهي في منهاج الله وشريعته وفي رسالته السماوية الخاتمة التي حملها نبينا الكريم, وهي رزق يسوقه الله لمن يشاء, ومن عمل بها قولاً وفعلاً فُتحت له أبواب السماء والأرض, والتاريخ خير شاهد.
من يتأمل في مناهج التعليم والتدريب المترجمة يجد بأنها تدور حول مشكاة النبوة ونبراسها لكن بطرح مختلف, ليست ببعيدة عن تأكيد القيم مثل الصدق والعطاء وتقدير الذات... إلخ, فمن الأقوى الصوت أم الصدى؟.
فاصلة: الحكمة إجابة على سؤال, ولفظ حاز استحسان, نقلها من آمن بها, وطبقها من فهمها, قد تكون صحيحة, وقد تكون خاطئة, المهم أن تعرف مصدرها, والغاية منها, وهل هي تتوافق مع معتقداتك ومبادئك أم لا, وأن تفرق بين قائلها ومضمونها, المهم القيم, أما عن الأشخاص فهم يكررون نفس الأدوار على مر التاريخ, يذهب صاحب الخلق وتبقى صفة حسن الخلق, يذهب الأحمق وتبقى صفة الجهل, حان الوقت لاختيار ومراجعة قيمك العليا ومبادئك الراسخة, فأنت بصفاتك وعلمك وعملك, والباقي سيتوارى تحت الثرى.