عبدالعزيز القاضي
يا مل قلب من شديد العرب باه
بوهة غرير بالمظامي رمت به
- ابن سبيّل
رحيل الأحبة، وما أدراك ما رحيلهم؟ إنه الموت بل هو الأقسى والأشد والأنكى من الموت لأنه موت بلا نزع، منه تتألم القلوب، وتهطل الدموع، وتتعطل الجوارح، وتذوب الأكباد حتى تسيل. وإذا كان الفراق بعمومه يفجع النفوس فكيف بفراق الأحبة؟ والرحيل في الماضي مثله مثل (المرض) مخيف جدا ومروّع جدا لأنه مظنة الموت وعدم التلاقي مرة أخرى.
لقد بكى الشعراء قديما وحديثا من فراق الأحبة، وسكبوا منه العبرات الحرى، حتى فاضت دموع قصائدهم، واستطال أنينهم، قال الفرزدق:
رحلت جِمالهمُ بكل أسيلة
تركت فؤادي هائماً متبولا
ساروا بقلبي في الحدوج وغادروا
جسمي يعالج زفرة وعويلا
والأسيلة: ناعمة الخد (كناية عن الفتاة الجميلة)، والمتبول: من أسقمه العشق، والحدوج: مراكب النساء فوق الإبل.
وقال أبو تمام:
قالوا الرحيل فَما شككت بأُنَها
نفسي عن الدنيا تريد رحيلا
والترحال خصيصة من خصائص الحياة في البادية، فطلب الرزق والانتجاع يحتم عليهم التنقل هنا وهناك، فهم كما قال ساكر الخمشي:
يتلون براق وقع منه الأمطار
استبرقوه وعسسوا ورحلوا له
وكما قال جزا الحربي:
تفرقوا من نقرة العد سلفان
أحد رحل جنوب وأحدٍ شمليا
قفّوا وراحوا مع وسيعات الأوطان
وكل على سفن الصحاري رحليا
والمرحوم عبد الله ابن سبيل هو رائد البكاء على رحيل البدو بعد (مقطانهم) في الشعر النبطي، وله فيه عدد من القصائد، وبيت السياحة أعلاه من قصيدة يصف فيها وقع رحيلهم وأثره في نفسه، ومطلعها:
وش خانة المقطان لو قيل محلاه
صيور ما جا بالليالي غدت به
و(المقطان) تجمع البادية صيفا قرب موارد المياه وقرب الهجر والقرى، و(صيور) هنا معناها: مادام، و(شديد العرب) في بيت السياحة: رحيلهم، و(باه) ذُهل.
وقال المرحوم فهيد المجماج (راع الأثلة) وهو أحد المختصين أيضاً بهذا الفن:
لا والله إلا شدوا البدو نجاع
كل هدم مبناه وارتد زمله
و(نجّاع) من النجعة وهي طلب الكلأ ومساقط الغيث، (ارتد زمله) أحضر إبله استعدادا للرحيل. وقال أيضاً:
يا مل قلب من شديد العرب جاض
كما يجوض إلى أوجس الكي ممروض
لا والله إلا صار للبدو نضناض
دونك احجير امغيزل العين مقضوض
و(جاض) توجع، والـ(نضناض) الجلبة وأصوات الشروع في الاستعداد للرحيل. والـ (احجير) خيمة صغيرة أو رواق خاص بالبنات، (امغيزل العين) من تسحر بنظراتها، كناية عن الفتاة الجميلة.
وقال بطي بن مغرس:
شد الشديد وصمّلوا يا عذابي
وتفرق المقطان يا فجع الأحباب
أتلى العهد به يوم شال الزهابي
من جال عِدٍّ قِشّعت منه الأطناب
(وصمّلوا) عزموا على الرحيل، والزهاب: طعام المسافر ومن في حكمه، والعدّ: البئر غزيرة الماء، و(الأطناب) الحبال التي تشد بها الخيام.
وإذا كان الصيف في الماضي عند بعض أهل القرى حدثا ينشر البهجة في النفوس التي يهفهفها الجمال برؤية بنات البادية في مقطانها حولهم، فإنه في الحاضر وفي الفترة التي سبقت ظهور (الجوال والنت) تحديدا حدث مؤلم عند بعض الأحبة لأنه فصل السفر والبعد وفراق الأحبة، ولذلك هجوه واشتكوا منه، قال طلال السعيد:
حان وقت السفر والعين عيت تنام
ول يا الصيف فرّق كل محب وحبيب
وقال عبد الله العليوي رحمه الله:
الصيف قرب واعذابي من الصيف
يبي يروح الزين ما عاد ينشاف
وقال عبد العزيز السناني:
قرب الرحيل وحّل بالقلب عله
لا باس يامفجوع بفراق غالي
(إن الرحيل على النفوس شديد) هذه هي الحقيقة، وأشد منه رحيل القلوب، وهو فراق الأرواح وإعلان القطيعة التي لا وصل بعدها ولا عودة، والرحيل انقلاب كوني في مناخ الروح، تتحول فيه الرياض إلى صحارى قاحلة، والغدران إلى سباخ ممحلة، وبه تتحول الجنة إلى لهيب وهاج، والمنهل العذب إلى ملح أجاج، قال ابن زيدون:
يا جنة الخلد أبدلنا بسدرتها
والكوثر العذب زقوما وغسلينا
في الحقلة القادمة بإذن الله نتحدث في أقسى إجراءات الفراق وهو (الوداع)