د. عبدالحق عزوزي
كنت في محاضرتي الأسبوعية أقرب لطلبتي في الكلية بمدينة فاس مفاهيم عن العلاقات الدولية، وكنت أشرح لهم أهم الفاعلين فيها كالدول والشركات متعددة الجنسيات والمنظمات الدولية، بل وحتى الأفراد؛ لأنهم
في بعض الأحيان يكونون أقوى من دول مجتمعة، وتعجبت عندما سألتهم عن مقر بعض المنظمات كالإسيسكو واتحاد المغرب العربي والاتحاد من أجل المتوسط فلم يجبني أحد!!.. قد يقول قائل إن عدم التمكن من الجواب مرده إلى قلة الثقافة والاطلاع الموازيين الذين يجب أن يتمتع بهما أي طالب مبتدئ في العلوم السياسية والعلاقات الدولية خاصة وأننا إذا استحضرنا أن مقر اتحاد المغرب العربي في مدينة الرباط ويبعد عن فاس بـ 200 كلم فقط، ولكن نفس العجب يراودك عندما تسأل نفس السؤال الطلبة في نفس المستوى في جامعة السوربون أو جامعة تولوز.. المشكلة ليست في الثقافة ولكن في المنظمات نفسها..!.
المنظمة الدولية هي شخض اعتباري من أشخاص القانون الدولي العام، وينشأ عن اتحاد إرادات الدول لأجل حماية مصالحها المشتركة ويتمتع ذلك الشخص بإرادة ذاتية في المجتمع الدولي، وفي مواجهة الدول الأعضاء. وهناك منظمات ذات توجه عالمي، حيث إن العضوية تبقى مفتوحة لكل دول العالم بحسب أهداف معينة وما يقرره ميثاقها كما هو حال منظمة الأمم المتحدة حالياً وعصبة الأمم سابقا، وهناك منظمات تقتصر عضويتها على بعض الدول لعوامل جغرافية وسياسية واقتصادية وثقافية وعسكرية وهي ذات توجهات إقليمية موحدة ومصالح مشتركة كما هو اتحاد المغرب العربي وجامعة الدول العربية والاتحاد الأوروبي وكل ما ينبثق عن تلك المنظمات من وكالات واتحادات وهيآت متخصصة.
وأيّاً كانت طبيعتها فإن أية منظمة تخلق بين الدول إلا ويجب بداهة أن تملأ أخبار الساعة يومياً أو على الأقل أسبوعياً لأنها تكون لصيقة بالحركة الاقتصادية والتبادل التجاري والمالي والعلاقات السياسية وحل المشاكل الإقليمية والجهوية والدولية، كما أنها لصيقة بالتعاون الاختياري المنشئ والمنتج بين دولها في كافة المجالات التي يحددها الاتفاق المنشئ للمنظمة.. خذ معي مثال الاتحاد من أجل المتوسط، وهي منظمة تضم 43 دولة بما فيها كل الدول الأوروبية ودول جنوب وشرق المتوسط.. اجتمع رؤساء الدول في قمة منشئة في يوليوز 2008 وتلتها اجتماعات وزارية وتقنية معينة وتبلورت عنها مشروعات واعدة، ولكن مع الأزمة الفلسطينية الإسرائيلية وبداية الربيع العربي، خفق وهيجها، رغم تواجد أمين عام من أكبر الدبلوماسيين المحنكين في الفضاء المتوسطي الزميل فتح الله السجلماسي، والذنب ليس ذنبه وإنما الحالة التي توجد عليها بعض الدول العضوة في هذا الفضاء والأهمية التي تعطيها الدول القوية لهذا التجمع.. كان بإمكان هاته المنظمة كمنظمة جهوية-إقليمية المساهمة في حل المشاكل السياسية التي تعاني منها دول في الجنوب.. ولكن الأبعاد الاقتصادية والتنموية بمعزل عن الأبعاد السياسية التي أراد المؤسسون وعلى رأسهم فرنسا، منحها لها، لا يمكن أن تعطي النتائج.
شاهد معي أي قناة أوروبية وعالمية (فرانس 24، يورو نيوز، بي بي سي، سي ن ن) كل يوم ستشاهد وقائع عن الاتحاد الأوروبي من اجتماع بين رؤساء دولها أو وزراء خارجيتها أو المختصين في مجال من المجالات (المجال المالي، الهجرة، التجارة،... إلخ)؛ وقرارات حاسمة تؤخذ لتتدخل في مصير ملايين من الشعوب، تسأل عنها حتى تلميذاً في ثانوية في بادية جنوب فرنسا سيعرف حيثياتها وما تحت حشائشها، كما أنه سيعرف مقراتها وأسماء مسؤوليها.. ولكن لن تسمع عن الاتحاد من أجل المتوسط ولا عن اتحاد المغرب العربي، بل ولا حتى عن جامعة الدول الأوروبية إلا نادراً لأن قراراتها غير نافذة، واجتماعاتها في الكثير من الأحيان غير جادة، بل وغير نافعة، ولأنها في العديد من الأحيان تعكس نوعية بعض الدول العضوة فيها، حيث إن طبيعة الأنظمة الداخلية تؤثر على المنظومة الجهوية أو الإقليمية، ناهيك عندما تفقد هاته المنظمات البوصلة وتغيب الدول المحورية فيها عن تحريك المياه الراكدة إما عمداً أو كرها..
إن الذي يميز المنظمات الدولية عن غيرها هو كون المنظمات لها طابع الدوام والاستمرار، وهذان الطابعان يعنيان أن لهما أجهزة في حالة تسمح لها دائماً بأن تباشر الاختصاصات المعهودة لها بصورة منتظمة لتحقيق المصالح المشتركة ذات الطبيعة المستمرة؛ هذا الذي يكتب في النظام القانوني الدولي للمنظمات الدولية، ولكن الذي لا يكتب وهو الأهم والمحدد هو ضرورة تواجد دول محورية تقود سفينة المنظمة الدولية، وبدون دول محورية تؤمن بعملية قيادة السفينة صل صلاة الجنازة على أية منظمة دولية.
لذا قلنا في مقالتنا السالفة إن النظام العربي المقبل يجب أن يؤسس من خلال دول محورية رئيسة وعلى رأسها السعودية والمغرب والإمارات ومصر، ولا يمكن التباهي بإمكانية جمع 22 دولة عربية على قصعة عروبية واحدة، كما لا يجب فهم كلامنا على أننا نسعى لإزالة الدول العربية الأخرى من هذا الوعي العروبي الجديد بتحالفاته الإستراتيجية والاقتصادية والتنموية والعسكرية، بل يجب خلق ميكانيزم مؤسساتي تكتلي محدود تنضم إليه الدول الأخرى تباعاً، حتى إذا وقع خلل أو اختلال في تلك الدول لن يؤثر ذلك على المنظومة التكتلية ككل وهذا ما عانى منه النظام العربي لعقود، إذ كلما وجدت مشاكل بنيوية داخلية أو بين دولتين وأكثر إلا وتأثر النظام بأكمله فتعطلت الهياكل وكل البوصلات التكتلية الإقليمية والاتفاقيات المبرمة، وهلم جرا.
وإذا استقرأنا تاريخ الاتحاد الأوروبي المكون من 28 جولة والدول المحورية التي قادت وتقود سفينته بإستراتيجية خارقة للعادة وبدون كلل أو توقف، سنجدها طبعاً في دولتين رئيسيتين، فرنسا وألمانيا: انتخاب البرلمان الأوروبي بالاقتراع العام المباشر وخلق نظام الوحدة الأوروبية سنة 1979 كانت بتحريك من الثنائيين الألماني هيلموت كول والفرنسي فاليري جيسكار دستان؛ كما أن الثنائيين هيلموت كول وفرانسوا ميتران خلقا المستحيل للاتحاد الأوروبي (خلقا السوق المشتركة، خلقا شينغن، وخلقا العملة المشتركة، كما خلقا السياسة الخارجية والدفاع المشترك، والمواطنة الأوروبية) كما أن الثنائيين جاك شيراك وجيراد شرودر خلقا نظام السياسة الفلاحية الموحدة ناهيك عما قام به ساركوزي ومن بعده فرانسوا هولاند مع الألمانية ميركل لإنقاذ العملة الأوروبية من الانهيار وإنقاذ اليونان من الإفلاس. على الصعيد الداخلي يعد تهيئة المناخ الاجتماعي والسياسي للحوار هي القاعدة الأولى في بناء أي دولة، وإذا تواجد فيها حكماء نبغاء عليهم إجماع وطني، فتلك هي المفازة التي تنجي البلاد من سنوات الفوضى والمجهول.. ولا أخال دولة من دول العالم كيفما كان نوعها لا يمكن أن تنجب مثل هؤلاء الحكماء؛ فقط يجب معرفة كيفية حضورهم لسبر أغوار المشاكل المتراكمة بسبب المشاكل المتتالية، والتفاعل مع كل الفاعلين السياسيين، وطريقة التواجد الفعلي كقوة اقتراحية تجمع ولا تفرق، توحد ولا تقصي.. نفس الكلام يقال عن أي تكتل إقليمي جهوي، إذ يجب تواجد الحكماء فيها وهؤلاء الحكماء هم الدول المحورية التي تقود سفينة التكتل وتوجه الآراء المتشعبة والمتناثرة هنا وهناك، وتملك الحكمة الضرورية لملء الفراغ وتوجيه الرؤى والقرارات للحصول على الإجماع وبلورة الإستراتيجيات الضرورية للبقاء في نظام عالمي لا يرحم وفي تنافس حاد ومستمر بين مكوناته.