علي الصراف
الاتهامات التي تطول الولايات المتحدة بأنها كانت وراء تفشي ظاهرة الإرهاب، ليست كلها من دون أساس.
فهذه الظاهرة، إن لم تكن ثمرة أعمال، فإنها ثمرة نتائج أعمال. خذ هذه الدلائل الثلاث بالحسبان، وسترى كيف أن الخيارات الخاطئة جلبت نتائج كارثية على المنطقة وعلى العالم بأسره.
في الدلالة الأولى، اندفعت الولايات المتحدة إلى غزو العراق في العام 2003 بناء على مبالغات وأكاذيب وجدول أعمال شديد النفاق. فماذا كانت النتيجة؟
لقد كان الأمر يقوم، بالدرجة الأولى، على افتراض غبي يقول إن تدمير بنية الدولة (الدكتاتورية) في العراق، سوف يتيح «إعادة بنائها» على أسس جديدة تسمح بإقامة نظام ديمقراطي. وأول الطريق، في هذا الاتجاه، كان إزالة الدولة، وإزالة «الشعب العراقي» الذي تمت إعادة تشكيله إلى «مكونات» طائفية وعرقية متصارعة.
خلق نظام طائفي، يقوم على هيمنة طرف ضد آخر، كان يعني مشروعًا لصراع مفتوح، وخراب متواصل، وفساد يتأصل في كل إدارة من إدارات الدولة.
وهذه بيئة أبعد ما تكون عن الديمقراطية. بل إنها عاجزةٌ (بنيويًا) عن إنتاج أي مظهر من مظاهر الديمقراطية.
كم كلف هذا الخيار من ضحايا وخسائر مادية؟ وكم ربحت الولايات المتحدة منه؟
لقد كانت خسائر العراقيين جسيمة. ووفقًا لجميع المقاييس، فإن الفوائد التي جنتها الولايات المتحدة هزيلة جدًا بل مخزية لها ولمكانتها كدولة عظمى، قبل أن تضطر في النهاية أن تعلن الانسحاب لتجر وراءها ذيول الخيبة.
الشراسة التي انتهجتها مليشيات طهران، والشراهة في الفساد، والوحشية التي عاملت بها «المكونات» الأخرى، لم تكن ناجمة عن «خطأ فني» في السلوك أو في السياسات، بقدر ما كانت تعبيرًا أصيلاً عن طبيعة المشروع الطائفي نفسه. فبحكم كونه «مشروع غلبة»، فقد كان من الضروري للغاية أن يكون شرسًا وشرها ووحشيًا.
والكل يعرف، ماذا كان رد الفعل الطبيعي حيال هذه الوحشية.
في الدلالة الثانية، اختارت الولايات المتحدة أن تسلم العراق إلى إيران، لمجرد أنهما كانا يتوافقان على مصلحة واحدة: التمزيق الطائفي لهذا البلد.
رهانُ واشنطن الخائب كان يقوم على افتراض غبي آخر، هو أن إيران يمكن أن تتحول إلى حليف إستراتيجي، وأن تقاسم المصالح معها في العراق، سوف يتيح للولايات المتحدة أن تكسب هيمنة بلا منازع على امتداد آسيا والشرق الأوسط.
النتيجة كانت مخزية، هنا أيضًا. فإيران التي تنظر إلى نفسها كقوة إقليمية، ما كان بوسعها أن «تتقاسم» مع الولايات المتحدة أي شيء (إلا الفتات من أموال العراقيين طبعًا). فبحكم كونها صاحبة مشروع خاص بها، فإنها كانت تريد أن تفرض هذا المشروع، وأن تعود لتتصرف كقوة إمبراطورية، تستعيد أمجادها الفارسية القديمة.
ومثلما أدى انسحاب الولايات المتحدة إلى توسيع الفراغ لصالح إيران، فإن مليشياتها في العراق ملأته بالتعسف والنهب وسفك الدماء.
والانسحاب لم يكن انسحابًا عسكريًا فقط، بل كان انسحابًا سياسيًا وأخلاقيًا أيضًا، لتترك واشنطن العراقَ، مثل شاةٍ ممزقةٍ، نهبًا للذئاب وللكلاب وللذباب.
أما الخيار الثالث، فقد كان يعني المنطقة بأسرها، وليس العراق وحده. فالرهان على ما يسمى بـ»الإسلام السياسي المعتدل»، كان يقوم على افتراض غبي آخر وآخر، يقول بإن جماعة مثل «الإخوان المسلمين» يمكنها أن تكبح جماح «الإسلام السياسي المتشدد»، وبدلاً من أن يكون الغرب عرضة للإرهاب، فإن تلك الجماعة سوف تتكفل بحماية المصالح الغربية من جهة، كما أنها سوف تتكفل بملاحقة الإرهابيين في عقر دارهم، وتتحداهم في أيديولوجيتهم.
شيئان، على الأقل، لم يلاحظهما خبراء هذا الخيار. الأول هو أن هذه الجماعة («الجهادية» هي الأخرى) سوف تنشئ تصادمًا اجتماعيًا وسياسيًا داخليًا حادًا، يسفر عن تمزقات لها أول وليس لها آخر. والثاني هو أن هذه التمزقات، بكل ما يرافقها من فشل إداري واقتصادي، سوف تنشئ مستنقعًا فسيحًا للتطرف. وكان من الطبيعي لمشروع غلبة آخر أن يحرف النقاش الاجتماعي والتوجهات العامة إلى منافسة بين «جهادي» من نوع، و»جهادي» من نوع آخر، فتكسب أيديولوجيا التطرف من الجهتين، بدلاً من أن تندحر.
وبكل ما تثمره من فشل وتفسخ وانهيارات، فإن هذه البيئة، ستكون بطبيعتها، منتجة ومصدرة للإرهاب.
وحتى يحين الوقت، لكي نسمع من واشنطن اعترافًا رسميًا بسخف تلك الخيارات وغبائها، فإن من حق كل المتشككين القول: إن مسؤولية الولايات المتحدة عن تفشي ظاهرة الإرهاب، ليست كلها من دون أساس.