د. خالد محمد الصغِّير
المتابع لمشهد واقع العمل الإداري لدينا سوف يلحظ حضور مبدأ قوي يتحكم في مسيرة العمل اليومي في عدد من إدارات ومؤسسات الدولة والذي يمكن عنونته بالإدارة وفق مبدأ الاستثناء. فمن يقف على سُدة إدارة عمل ما عليه في أحيان أن يُهيئ نفسه للتجاوب مع العديد من طلبات الاستثناء، والتجاوز للأنظمة واللوائح المنُظمة لسير العمل في تلك الإدارة، أو المؤسسة، وهذا في رأيي له انعكاسات سلبية مدمرة على مختلف الأصعدة الإدارية، والاجتماعية، والتنموية.
الفاحص يدرك أن بعضاً من إداراتنا يقودها ويسيرها هذا المبدأ، أو السلوك الإداري، ومن حاول مخالفته فسيُمنى بصفة التعقيد، وقاطع الأرزاق، والجاهل بالحالة الاجتماعية الخاصة التي عليها المجتمع، وقصر النظر، وغيرها من الصفات المُقذعة في حق من يحاول جاهدا إحداث نوع من الانضباطية، وترسيخ مبدأ العدل والمساواة عند التعاطي مع كل صغيرة وكبيرة يحتاج إليها المواطن من إدارته.
وبعد تقديم هذا الواقع الإداري في بعض من الإدارات لدينا، والمتحكم في طريقة إدارتنا لأعمالنا لعلنا نُعرّج على بعض من الانعكاسات السلبية، ثم نستعرض بعد ذلك بعضاً من الحلول المقترحة التي ربما تكون عوناً للقضاء على ثقافة الاستثناء الإداري المتنامي في أروقة مؤسساتنا.
يأتي على رأس تلك السلبيات فقدان المصداقية أحياناً، فنحن نعلن على رؤوس الأشهاد أننا محكومون بلوائح وأنظمة نحترمها، ونعمل بموجبها، ولكننا على أرض الواقع نقوم أحياناً باختراق ونسف تلك الأنظمة واللوائح المعلنة لا لشيء إلا لنكسب رضا وثناء فلان وعلان، وإسداء معروف ودين مسترد لاحقاً. وفقدان المصداقية يعني زوال الهيبة للكيانات الإدارية داخل مؤسساتنا ووزاراتنا التي تدار أحياناً وفق هذا المبدأ، وقبل ذلك لأنظمتها التي استنفدت الكثير من الجهد والوقت لإعدادها وصياغتها لتكون مرجعاً يُحتكم إليه، وأداة لتنظيم العمل، لكنها في ظل هذه الممارسة الإدارية أصبحت مجرد حبر على ورق وبالتالي لم يعد لها قيمة على أرض الواقع الإداري المعاش.
والسلبية الأخرى التي يفرزها هذا السلوك الإداري خلق جيل يسعى دوماً للبحث عن الطرق الملتوية للالتفات على الأنظمة واللوائح التي بدلاً من أن نجعلهم يرونها وسيلة منظمة وحامية للحقوق، وسبباً لإحقاق الحق والعدل والمساواة بين الناس ندفعهم بتصرفنا هذا إلى النظر إليها بصفتها عائقاً وعقبة تحول دون وصولهم إلى غاياتهم، ومنحهم الضوء الأخضر لاستخدام كل القنوات والوسائل التي تمكنهم من أن يتم استثناؤهم بغير وجه حق عما تم سنه وتشريعه من أنظمة ولوائح منظمة لتسيير دفة العمل بشكل يضمن تساوي الفرص بين الجميع من غير استثناء، فالغاية في نهاية المطاف -بممارستنا لهذا السلوك الإداري- علمتهم أنها مبرر لأي وسيلة يمكن استخدامها لنيل المراد. وكأننا بذلك نوحي لهم أنّ تجاوز التشريعات والقوانين الموضوعة أمر مقبول، بل هو القاعدة السبيل لذلك يكمن في طرق باب الاستثناء.
وإلى جانب هاتين السلبيتين تأتي مسألة إشاعة ممارسة السلوك الإداري الاستثنائي لجو من الإحباط لدى من يحاول جاهداً خلق جو من الانضباطية داخل إدارته الصغيرة بشكل خاص، وفي المؤسسة التي ينتمي إليها بشكل عام، وذلك يقود في المحصلة النهائية إلى عدم الرغبة في الإنتاجية، والتفكير في مناحي التطوير التي يمكن أن تطال تلك الإدارة، وذلك لإدراكه أن عمله وجهده سوف يُنسف بلحظة من خلال إملاءات وقرارات استثنائية غير مستحقة تُمنح لأشخاص لاعتبارات شخصية أكثر منها بالنظر للمصلحة العامة.
الفوضى الإدارية وتهيؤ الأجواء لوجود فئة من الإداريين هناك سلبية أخرى تضاف إلى ما تم الإتيان عليه آنفاً. فسيادة جو الاستثناء داخل إدارة ما يؤدي إلى انفلات زمام الأمور في تلك الإدارة، وانعدام الانضباطية مما يُشجع بعض الموظفين ذوي الأهواء الشخصية إلى استغلال الوضع القائم، وفتح باب الاستثناء مما يعني إشاعة جو من الارتباك الإداري، ولاختراق المؤسسي، وسعي ذلك النوع من الإداريين لتمكين البعض من الحصول على مكتسبات ليسوا أهلاً للحصول عليها الأمر الذي يعني حرمان آخرين كانوا أولى بها، وربما أفادوا المجتمع بحصولهم عليها أفضل بكثير ممن مُنح ذلك الاستثناء بغير وجه حق.
والسلبية الأخرى الناتجة من استشراء داء الإدارة وفق مبدأ الاستثناء فعلها السلبي في تنامي الشعور بالغبن والإحباط لدى الذين بضاعتهم التميز والتفوق واللذان لم يكونا كافيين ليشفعا لهم لكي يحصلوا على ما يستحقونه من فرص بسبب عدم شمول عنصر الاستثناء لهم، كما أنها ربما -بحكم عدم تقدير تميزهم وقدراتهم التي يتملكونها- تقودهم لسلوك نفس المسار مما يعني حرمان المجتمع من أفراد يمكن أن يكونوا إضافة له من خلال منحهم الفرص التي يستحقونها التي يمكن من خلال استثمار قدراتهم وإمكاناتهم لما فيه مصلحة عملية التنمية الوطنية التي بحاجة لسواعد وطنية فاعلة مؤهلة تتولى مهمة دفع عجلة المعرفة والرقي في هذا الوطن.
والأمر لا يتوقف على ذلك، وإنما يضاف إليه أنها تأتي في وقت تسارعت فيه خطوات الإصلاح لدينا بشكل واضح وهذا المسلك الإداري السلبي معول هدم في مسيرة الإصلاح والبناء التي يقودها خادم الحرمين الشريفين، لأننا بموجبه سنجد أنفسنا نقوم بسن قوانين على صورة معكوسة تراعي الحالات الاستثنائية النادرة، ونهيئ أجواء خصبة لجعل إدارات مؤسساتنا ودوائرنا بيئة للاستثناء بصورته السلبية، وذلك كله يأخذنا مسافات عن خط التصحيح الذي مضينا فيه قدماً، ونحقق مع فجر كل يوم إنجازات ملحوظة في سبيل القضاء على الفساد الإداري الذي وضعت الدولة كل ثقلها لاجتثاث بؤره والتي منها ممارسة بعضهم لهذا السلوك الإداري المتمثل في سوء استعمال نفر ممن يديرون مؤسساتنا العامة بهذه الطريقة التي تمكنهم من تحقيق مكاسب شخصية في المقام الأول وهو الأمر الذي ترى السلطة العليا في بلدنا الغالي أنه عقبة كأداء في طريق التنمية ولذا جندت كل إمكانيتها لإصابته في مقتل.
والخلاص من هذا أنه لابد من القيام بعدد من الخطوات الإجرائية الجريئة المتمثلة في استشعار من يمارس هذا الأمر ممن يُدير مؤسساتنا العامة تحديداً تقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، وكبح جماح الرغبة العارمة في تحقيق مكاسب على الصعيد الشخصي، وسماع عبارات الثناء والإطراء من ثلة غير مستحقة لما تم منحها إياه من استثناء، كما أننا بحاجة إلى رسم سياسة متجانسة للتعامل يتم العمل بموجبها مع الجميع بدون استثناء بغير وجه حق لتلك السياسة المعلنة الملزمة لكل الأطراف العاملة داخل أروقة هذه المؤسسة، أو تلك، ونحن كذلك بحاجة إلى رد طلب الاستثناء في حالة وجوده ومشروعية المطالبة به إلى لجنة متخصصة، وليس ترك أمر البت فيه محصوراً بيد فرد واحد مسؤول، كما أننا بحاجة إلى توعية المواطن، وبخاصة اللحوح طالب الاستثناء بضرورة وأهمية احترام الأنظمة واللوائح.
بقي أن نشير في الختام أن كل ذلك لا يعني بالضرورة المناداة بالإلغاء التام لسلوك الاستثناء الإداري، لأن الواقع لا يدعم هذا المطلب المثالي، وكذلك لأن كل قرار ونظام لدينا نجده مذيلاً بمادة تمنح صاحب الصلاحية حق الاستثناء متى ما رأى أنه يصب في مصلحة العمل، ولكنه دعوة لتحجيمه وممارسته في أضيق الحدود بشكل يجعل وجوده وممارسته غير مضر، وهاضم لحقوق الآخرين.