هناك أناس يمرون في سماء التاريخ كومضات متوهجة خاطفة، أو يظهرون على مسرح الأحداث في مشهد قصير ثم يسدل الستار عليهم، لكن تظل تلك الومضات الخاطفة، والمشاهد القصيرة ناطقةً بالذي كان، وعالقةً على جدار التاريخ وفي ذاكرة الأيام. من هذه الشخصيات التاريخية، شجر (شجرة) الدّر أو عصمة الدين أم خليل، وهي مملوكة ذات أصل أرميني أو تركي، حكمت مصر مدة ثمانيين يوماً،فكانت أول امرأة في التاريخ الإسلامي في مصر تتولى السلطة، وأول مملوك حكم مصر والشام،وبها بدأ حكم المماليك. أنقذتبلاد المسلمين من الحملة الصليبية السابعة، وخطت بمصر نحو الاستقرار السياسي في فترة مضطربة من تاريخها.كانت حياتها أشبه بالصعود إلى الهاوية، فمن جارية تعتلي الجياد، إلى زوجة ذات حظوة عند زوجها السلطان، ثم سلطانة، إلى تنازلها عن الحكم لزوجها السلطان الجديد مع تحكمها بمقاليد الأمور من وراء الستار.وهكذا إلى أن تنتهي حياتها نهاية مأساوية، وليخبو نجمها بقدر توهجه،ولتصير حياتها شاهدة على ما في التاريخ من دراما تستحق التأمل.
أسبغ المؤرخون عليها صفات قلّما تجتمع في امرأة، منها جمال بارع، شعر أسود وبشرة بيضاء وصوت أخّاذ آسر، وذكاء لامع، وشخصية قوية، وحديث راجح يأخذ بالألباب، وفوق هذا وذاك صوابٌ في المسعى. والمرجح أن سبب تسميتها بشجر الدّر، ومعناه الجميلة اللامعة مثل الأشجار التي تحمل الدّر(اللؤلؤ)، أنّ العرب كانوا يسمون جواريهم بأسماء الجمع غالباً مثل قطر الندى، وإن تداول البعض أن سبب تسميتها أن أباها كان يحبها وأهداها فستاناً من الدّر فلما لبسته أصبحت وكأنها شجرة در.
كان أول ظهور تاريخي لها كمملوكة في حريم الخليفة المستعصم آخر الخلفاء العباسين في بغداد (حكم بين عامي 1242-1258م). ليشتريها بعد ذلك الصالح نجم الدين أيوب ويضمها إلى حريمه قبل أن يعتلى سلطنة مصر، فتستحوذ على لبه واهتمامه، حتى أنها كانت ثالث ثلاثة هو ومملوكه ركن الدين بيبرس البندقداري الصالحي (وهو ليس الظاهر بيبرس الذي تسلطن فيما بعد)عندما احتجزه ابن عمه الناصر داود في الكرك عام 1248م لمدة سبعة أشهر على خلفية الصراعات الدائرة على أملاك الدولة الأيوبية في مصر والشام. وكان أن أعتقها وتزوجها،وأنجبت منه في غضون ذلك ابنهما خليل.وما أن عاد إلى مصر واستولى على الحكم فيها بديلاً عن أخيه السلطان العادل بتأييد من أكابر الأمراء ومماليك والده، وهبها لقب الزوجة المفضلة، وكان ذلك عام1240مليعلو نجمها وتتصدر المشهد السياسي في مصر في فترة عصيبة من تاريخها وتكون مشاركا فاعلاً في أحداثه.
يقولون إن المواقف تظهر معدن الرجال، وكذلك النساء. فقد ظلت شجرة الدّر الزوجة ذات الحظوة لدى السلطان الصالح نجم الدين أيوب طيلة تسع سنوات، لتتحول حياتها بعد ذلك لمنعطف جديد كان اختباراً لشخصيتها وقوة إرادتها وحكمتها. فحدث أن مات السلطان في اليوم الثالث والعشرين من نوفمبر 1249م بينما كانت المعارك مشتعلة في دمياط مع قوات الملك الفرنسي لويس التاسع، الذي أصبح قديساً بعد وفاته، في الحملة الصليبية السابعة على الشرق الإسلامي. وكان قد استولى على دمياط وحولها إلى مدينة مسيحية، ثم تقدم في اتجاه المنصورة في طريقة للاستيلاء على القاهرة نفسها.كان الموقف عصيباً، فلو تسرب نبأ وفاة سلطان مصر ستنهار معنويات جنوده. واستطاعت شجر الدّر بمن تثق فيهم من حولها مثل الأمير فخر الدين ابن عم السلطان، وجمال الدين كبير ياوري السلطان، أن تدير دفة الأمور بحكمة.فبعد أن أطلعتهم على الأمر طالبتهم بكتمانه، وأن تسير الأمور وكأنّ السلطان مازال حياً.فكلفت الثاني بدفن جثمان الملك سراً، وكلفت الأول بتولي مهام الجيش الذي يقاتل الصليبيين. وأرسلت من يستعدي توران شاة ابن الملك الصالح من العراق ليتولى السلطة.
ولمدة ثمانين يوماً كانت شجرالدّر تدير الأمور بحنكة وفطنة، وظل الطعام يدخل لغرفة الملك يومياً وكذلك يدخل الأطباء حاملين الدواء،وظل فخر الدين يستقبل رجال الدولة بديلاً عن الملك بدعوى أن حالته الصحية لا تسمح، وتنظر شجرالدّر في طلباتهم وتوقع على المراسيم والوثائق الرسمية وتختمها بخاتمه. ومع أن كتمان هذا الأمر لم يدم طويلاً إلا أنها قد أوثقت قبضتها على الأمور. فقد تمكنت من السيطرة على الوضع السياسي والعسكري إلى أن وصل توران شاة في فبراير 1250م، وبفضل حنكتها السياسية والعسكرية وتحكمها في مسار الأحداث تمكن المماليك من هزيمة قوات لويس في المنصورة وأسر الملك الفرنسي وجيشه. وماكان لهذا النصر أن يتحقق لولا متابعتها لسير المعارك وإعادة تنظيم الدفاعات وتدبر إرسال التعزيزات، حتى الانتقال من وضعية الدفاع إلى الهجوم ومن ثمّ تحقق النصر. لقد تمكنت شجرالدّر، وهي تواجه كارثة وشيكة تكاد تعصف بمصر، وربما بلاد المسلمين جميعاً، من أن توحد مصر جميعها خلف هدف واحد، وأن تحقق نصراً مؤزراً على الصليبيين، بل وتحافظ على استقرار البلاد و نظامها بعد أن قتل المماليك توران شاة بعد ذلك بفترة وجيزة لخلافات بينهم وبينه.
وبعدما عاين المماليك ما لديها من قوة شخصية، وحنكة سياسية، ومهارة في تصريف أمور الدولة في هذا الوقت العصيب، وزعامتها العسكرية والساسية، إضافة إلى أصلها المملوكي، أرتضوا أن تتبوأ شجرالدّر عرش مصر. وهكذا يرتفع بها نجم سعدها، وأُطلق عليها لقب: «المستعصمية الصالحية ملكة المسلمين والدة خليل أمير المؤمنين». وسمحوا بأن تكون أول امرأة تضرب باسمها العملة ويذكر اسمها في صلاة الجمعة بالمساجد. واستهلت نشاطها السلطاني بتصفية وضع الصليبيين في مصر فواصلت التفاوض مع لويس التاسع، وأبقت على حياة السجناء الفرنسيين بعدما استعادت دمياط وحصلت على فدية الملك الفرنسي.
غير أن وجود امرأة على رأس السلطة في مصر لم يكن يتفق مع التقاليد الإسلامية، فلم يقبل به قاضي القضاة العز بن عبد السلام، ذو الشخصية المؤثرة في المجتمع المصري في ذلك الوقت، والذي أفتى بأن المفهوم الإسلامي لا يعطي الحق للمرأة أن تصبح حاكما فتظاهرت جموع من الشعب ضدها. وفي الوقت نفسه ثارت ثائرة الأيوبيين في الشام لمقتل توران شاه.كما لم ترض الخلافة العباسية عن ذلك، وإن كانت ولايتها على مصر ولاية صورية، فأرسل الخليفة العباسي رسالة قصيرة ولكنها شديدة اللهجة إلى المماليك يقول فيها «إن كانت الرجال قد نفدت، أخبرونا كي نبعث لكم رجلاً». ونتيجة لهذه المعارضة الداخلية والخارجية، تصرفت شجرة الدّر بحكمة وآثرت تهدئة الأوضاع، ورأت تنصيب عز الدين أيبك قائدا للماليك، وسرعان ما تزوجته.وزيادة في التهدئة واستجابة للضغوط الأيوبية انتخب المماليك أحد أمراء الأسرة الأيوبية ليكون حاكماً مشاركاً. وسرعان ما اتضح أن ذلك الطفل-الأشرف موسى-عديم الجدوى وهو عبء بلا طائل. وصار عز الدين أيبك، الذي تلقب بالملك المعز، هو الحاكم الفعلي للبلاد. وهكذا تصرفت شجرة الدّر بحكمة وجنّبت البلاد أزمة داخلية قد لا تحمد عقباها وتنحت عن عرش مصر لأجل مصر.
لقد كان انتقاء شجر الدّر لعز الدين أيبك كونها رأته متلهفاً عليها، وأنه سيكون طوع إشارتها. ويبدو أنها سحرته بشخصيتها، وجمالها، وذكائها، فمن أجلها انصاع لنصائحها في كل أمر من الأمور ومنها أن يهجر زوجته أم علي.ويقول بعض المؤرخين أنه كان فاقد اللب تماماً تحت سحرها وسيطرتها، ويقول البعض الآخر أن حباً مشبوباً نشأ بينهما. والحقيقة أنها كانت تتمتع بدهاء سياسي أتاح لها أن تسيطر على مقاليد الدولة سيطرة فعلية فقد رأت فيه، ورأى فيه المماليك، ستاراً للشرعية التي تمكن شجرة الدّر من مواصلة حكم مصر، وتمكنهم من أن يقيموا دولة لهم قوية في مصر والشام. ومن وراء هذا الستار، تمكنت من تحقيق الاستقرار السياسي لمصر في ظل انشغاله الدائم بالناحية العسكرية مع المماليك ومناوشات وحروب الأيوبيين في الشام طيلة السنوات السبع التي أمضتها معه.
ودائما ما تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن، وكما قال نابليون «فتِّش عن المرأة» وربما من العدل أن نقول فتش أيضاً عن الرجل. فكان أن هجر عز الدين أيبك زوجته الأولى وأم ولده من أجل شجرة الدّر، ثم ما لبث بعد سنوات الزواج السبع، وبعدما أحكم قبضته على حكم البلاد، وتخلص من منافسيه في الداخل ومناوئيه من الأيوبيين في الخارج، وتمرس بإدارة شوؤن البلاد، أن عقد العزم على الزواج من ابنة والي الموصل القوي «بدر الدين لؤلؤ»، عروس جميلة وجديدة وصهر قوي.
وحرّك ذلك في شجر الدّرروح المرأة المجروحة، فانتوت الانتقام منه في ثورة حنقها عليه. فليس من المعقول أن ترفعه إليها ليترفع عليها، فبعد أن صنعت منه سلطاناً يهجرها لغيرها، ونسيت أنه هجر غيرها لأجلها. ولا تعدم المرأة الحيلة،فأرسلت إليه تسترضيه، وتتلطف معه، وتطلب عفوه، فانخدع لحيلتها واستجاب لدعوتها.وجاءها في التاسع والعشرين من أبريل عام 1257م وبعد بعض التريض، دخل الحمام لينفض عن نفسه العرق والأتربة من أثر الرياضة، وهي تتهيأ له بكامل زينتها وجمالها وجلالها.وكانت قد أعدت العدة لتلقنه درساً فأوعزت إلى الخادمات بضربه بالقباقيب الخشبية، حتى سال دمه ولما أمرتهن بالتوقف عن ضربه كان السيف قد سبق العذل وخرجن من الحمام وقد أجهزن عليه. ولما اسقط في يدها، ادّعت أنه قد سقط من فوق جواده أثناء عدوه، في محاولة يائسة للتستر على الجريمة. وأمام ريبة أمراء المماليك ومواجهتهم لها لم يكن أمامها سوء الاعتراف بأنها أرادت الانتقام منه، وأنها لم يخطر ببالها أبداً أن ذلك سيؤدي إلى وفاته. وانقسم أمراء المماليك فبينما رأى البعض أنها اقترفت ذنباً وارتكبت جريمة، رأى البعض أن لها من الأيادي على مصر وعلى المماليك أنفسهم الشيء الكثير. وانتهى الانقسام بانتصار أصحاب الرأي الأول، وحُبست في أحد أبراج قلعة صلاح الدين، ونودي بعلي بن عز الدين أيبك ليكون سلطاناً جدياً خلفاً لوالده.
أليمةٌ هي الحياة، وخائنةٌ عندما تدير ظهرها للمرء، ولكن سُنّة الحياة أنه كما تدين تدان. فلقد كانت هناك امراة أخرى تنتظر هذه الفرصة منذ سبع سنوات، وهي أم علي زوجة أيبك السابقة، أعدَّت للانتقام منها، فأمرت خادمات القصر بالدخول عليها وضربها بالقباقيب حتى تفارق الحياة لتشرب من نفس الكأس التي سقت به زوجها. وأُلقي جثمانها من فوق أسوار القلعة، وبعد أيام قليلة حمل جثمانها لتدفن في الضريح الذي بنته لنفسها. وهكذا انتهت حياة المرأة التي أنقذت بلاد المسلمين، وغيرت وجه التاريخ، والتي قال عنها مؤرخ عصرها ابن تغري بردي «كانت خيّرة دَيِّنة (متدينة)، رئيسة عظيمة في النفوس، ولها مآثر وأوقاف على وجوه البِرّ، معروفة بها».وأنهى تأبينه لها قائلاً «إن شجرة الدّر شخصية فريدة في الإسلام».ولكي تكتمل عجائب الأيام ودراما التاريخ، كانت غريمتها أم علي قد نذرت أن تدعو كل سكان القاهرة إلى وجبة من الحلوى في نفس اليوم الذي تتخلص فيه منها. وهكذا أمرت طهاة القصر بإعداد تلك الوجبة التي وصفتها لهم بأن يضعوا كميات ضخمة من الخبز، يجرى تسخينها إلى درجة الاحمرار، وتُغمر في اللبن والعسل ثم تُغطى بطبقة سميكة من اللوز والزبيب والصنوبر، وهي الحلوى اللذيذة»أم علي» التي مازالت تُعرف حتى اليوم باسمها.
- د. محمد أبو الفتوح غنيم