د.عبد الرحمن الحبيب
مانشستر يونايتد أعرق وأشهر نادٍ رياضي عالمياً والأكثر شعبية للعبة الأولى بالعالم: كرة القدم.. يذكر النادي أن قواعده الجماهيرية حول العالم تشمل أكثر من مائتي فرع رسمي لمشجعيه في أربعة وعشرين بلدًا، ويُقدر أن لديه أكثر من ثلاثمائة مليون مشجع حول العالم..
فماذا بقي من الهوية الإنجليزية لهذا النادي خاصة بعد انتقال أسهمه من سوق لندن إلى سنغافورة ثم إلى سوق نيويورك ليصبح النادي الأغنى والأعلى قيمة في العالم، والعلامة التجارية الرياضية الأثمن والأكثر رعاية من شركات عالمية.. والآن أغلب أسهم النادي يمتلكه أثرياء خارج بريطانيا.. فما هي هوية هذا النادي؟
إنها هوية سائلة.. كثير من الهويات في زمن العولمة الرأسمالية صارت سائلة.. نحن ما نشتريه، هذه هي هويتنا لا أكثر ولا أقل، حسب تعبير المفكر زيجمونت باومان مبتكر مصطلح «الحداثة السائلة» تعبيراً عن العولمة الذي انتقلت إليه مجتمعات عالم اليوم بعد أن مرَّت بالمرحلة الأولى للحداثة التي يسميها الحداثة الصلبة.. (المقال السابق تناول كيفية هذا الانتقال).
نحن ما نشتريه.. مثلاً نوع حقيبة المرأة أو ساعة الرجل تشكل للبعض جزءاً من الهوية الشخصية.. وهكذا ماركة أو موديل: السيارة، الجوال، اللباس.. إنه يشبه ما صار يطلق عليه «برستيج».. كم مرة تسمع عبارة «برستيجي ما يسمح لي»؟ بل هناك مواقع عديدة في الإنترنت مسماها بهذه العبارة! عليك خلق هويتك الشخصية بنفسك، فاستهلاك السلع والعلامات التجارية هي ميزة رئيسية لكيفية بناء الهوية الشخصية لدى الأفراد حسب رأي باومان؛ فقد ذبلت المصادر التقليدية للهوية، وانهارت الحدود بين الذات الأصيلة العميقة والظاهرية من خلال اختيار المستهلك..
المعنى العميق والمظهر السطحي للهوية ينصهران معاً. لم تعد الهوية الشخصية قائمة فقط على التعريف الاجتماعي السابق في مرحلة الحداثة الصلبة التي تشكلت عبر عدد من المعايير المستقرة، مثل: الوظيفة، الوطن، العائلة، الدين، الجنس، العرق، أسلوب الحياة.. بل أصبح متوقعاً من الأفراد أن يقوموا بمهمة خلق هويتهم بأنفسهم عبر اختياراتهم للسلع..
كانت الحداثة الصلبة مبنية على الإنتاج الصناعي للسلع الاستهلاكية، أما الحداثة السائلة فهي مبنية على تنامي مضطرد لاستهلاك السلع والخدمات. الأساس في الأولى إنتاج من أجل المنفعة، بينما في الثانية استهلاك من أجل المتعة. هذا الانتقال من الاقتصاد الإنتاجي إلى الاستهلاكي، وفقاً لباومان، هو نتيجة لتحلل البنى الاجتماعية التي كانت راسخة في الحداثة الصلبة، فأصبحت الهوية الشخصية في الحداثة السائلة: مهتزة، متجزئة، وغير متماسكة داخلياً؛ وغالباً تتشكل هذه الهوية عبر حصيلة اختيارات المستهلكين..
مركز أهمية الاستهلاك في بناء الشخصية الفردية يمضى أبعد من مسألة سلع الاستهلاك. فبدون المصادر الثابتة للهوية في الحداثة الصلبة، صار الأفراد غير مستقرين الآن.. إنهم قلقون يبحثون عن الإرشاد والاستقرار والتوجيه في دائرة أوسع لمصادر بديلة، لذا ازدهرت الدورات التدريبية في خلق الذات وتطويرها، واللهاث حول الإجابة عن سؤال: من أنا، وكيف استمتع بالحياة، وأتأقلم مع الناس؟ مثل دورات: مدربي تنمية الشخصية، المحللين النفسيين، المعالجين الجنسيين، خبراء العلاقات الاجتماعية، أخصائيي الصحة والتغذية والرياضة والتنحيف.. وهلم جرا.
الهوية الشخصية أو التعريف الذاتي للشخصية أصبح مشكلة مزعجة للأفراد بطرق لم يسبق لها مثيل، ومن ثم دائرة لا حدود لها في سؤال الذات والتفتيش عنها بأساليب تؤدي إلى مزيد من تشويش الفرد. المحصلة النهائية أن خبراتنا عن أنفسنا وعن الحياة اليومية يلعب بها القلق المستمر، والانزعاج حول من نكون، وحول مكاننا في العالم، في خضم سرعة التغيرات التي تطرأ من حولنا.
لذا فإن الحداثة السائلة تشير أساساً إلى مجتمع العولمة الذي يعاني من الشك وعدم الاستقرار. لكن قوى عدم الاستقرار لا تتوزع بالتساوي حول المجتمع العالمي، بل هي متنوعة تتأثر بالمكان والحيز من جهة وبالزمان والتوقيت من جهة أخرى، مستندة على السعي للثروة والإنجاز الشخصي، فهناك رابحون وخاسرون في الحداثة السائلة.. سياح ومتسكعون حسب تعبير باومان..
يرى باومان أن الناس المنتفعين من ميوعة الحداثة السائلة هم أفراد محظوظون يتمتعون بامتياز اجتماعي يمكنهم من الطواف بحرية حول العالم. هؤلاء المترفون «السياح»، يوجدون في الزمان أكثر من المكان؛ بمعنى أنهم خلال سهولة وصولهم للتكنولوجيات القائمة على الإنترنت وسهولة الترحال فهم يستطيعون - واقعياً وافتراضياً - التجوال في كافة أنحاء العالم والعمل في الأماكن التي يكون بها الاقتصاد مزدهراً ومستوى المعيشة عالياً.
على نقيضهم، سيئو الحظ «المتسكعون» الذين لا يستطيعون التحرك، أو هم خاضعون للتحرك الإجباري، ومحرومون من ثقافة الاستهلاك. هؤلاء حياتهم إما ناشبة في مواقعهم حيث البطالة عالية ومستوى المعيشة سيء، أو يجبرون على مغادرة أوطانهم كلاجئين اقتصادياً للبحث عن عمل، أو استجابة لتهديد الحروب والاضطهاد. وهم غير مرحب بهم في أي مكان يستقرون به لمدة طويلة..
بالنسبة لبومان، فإن الهجرات الضخمة وتدفق البشر حول العالم هي من العلامات الفارقة للحداثة السائلة وهي عوامل تسهم في عدم التوقع واستمرار تدفق التغيرات للحياة اليومية. يقول بومان: «السكان في كل البلدان هذه الأيام أصبحوا مجموعة شتات».
هل نظرية باومان (المعروضة هنا وفي المقال السابق) التي تعد حالياً الأهم في علم الاجتماع لها مسوغات واقعية قوية، أم أن هذا المفكر شطح في نظريته؟ قام عالم الاجتماع الأيرلندي دونشيا مارون باختبار هذه النظرية مطبقاً مفهوم باومان في الهوية السائلة عبر دراسة بطاقات الائتمان الاستهلاكية في أمريكا. لاحظ مارون أن البطاقة الائتمانية هي أداة مهمة في هذه العملية لأنها مناسبة بشكل نموذجي لتمكين الناس من التكيف مع هذا النوع من الطرق السائلة للمعيشة. فهذه البطاقة تمول رحلات التسوق لتلبية رغبة المستهلك بشراء الأشياء بطريقة سهلة وسريعة.. وخلصت الدراسة إلى أن هذه البطاقة تشكل بذاتها علامة تجارية للأشياء التي يهتم بها مالكها، وأن مظهرها (علامتها التجارية) يشكل وسيلة تكشف عن أداة يكون الشخص بها قادراً على تحديد وتقديم تعريفه وهويته إلى العالم الخارجي.
عندما وصلت البطاقة الائتمانية لأحد الزملاء وكانت فضية محدودة القيمة.. امتعض قائلاً: «لن أقبل بها.. برستيجي ما يسمح لي». والآن تلمس بطاقتك الائتمانية وبطاقتك الشخصية.. أيهما أكثر تعريفاً بك؟