د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
لم أكن قط ولا أتمنى أن أكون، بأي شكل من الأشكال، ممن يعانون من مرض «الزينوفوبيا» أو مرض كراهية الأجانب والوافدين. وهو مرض كريه وينتشر في البلدان التي يتكاثر فيها المهاجرون والمقيمون بصفة دائمة أو شبه دائمة. على العكس من ذلك أُسر كثيراً عند رؤية مقيم في بلادي من جنسية أو إثنية بعيدة ثقافيا عن ثقافتنا يعيش بيننا لأن في ذلك إثراء وتنوع ثقافي لمجتمعنا.
ولا أخفي سراً إذا ما قلت إني لا اعتبر العرب والمسلمين المقيمين في المملكة أجانب بل مقيمين في بلدهم الثاني. وكثير من الوافدين العرب والمسلمين قدموا خدمات يشكرون عليها لمجتمعنا وساهموا في بناء وطننا، وهو أمر نعترف لهم به ونشكرهم عليه. ولكن وفي كل الظروف هناك أيضاً اعتبارات وطنية في هذا الجانب وهي أن للمواطن السعودي الحق الأول في خيرات بلاده وهذا أمر يتطلب من المواطن والوافد معاً أخذه في عين الاعتبار لأننا نعتبره أولى أولويات اقتصادنا. ويحز في النفس أن يقدم البعض مواطننًا أو مقيمًا على إفساد هذا الود الاقتصادي بممارسة بعض الأعمال المخالفة لأنظمة البلد أو تلك التي تسيئ لفرص أبنائها في العيش الكريم. فمرحبا بالوافدين في بلادنا كمستثمرين وعاملين مخلصين ولكن ليس كمحتكرين ومحتالين.
بالأمس أتت صحف محلية على خبر إيقاف رجل من جنسية عربية شك رجال التحري في أمره بعد أن لاحظوا تحويله لأموال ضخمة من المملكة، تقارب النصف مليون شهريا، ووجدوا بحوزته شيكات تحويل تقدر بنصف مليار جمعها في فترة قصير جداً حيث أن مرتبه وميزاته الأخرى كالسكن والإعاشة والمواصلات ارتفعت بشكل مضخم فجأة حتى وصلت لربع مليون شهريا بعد أن كان يستلم مرتباً معقولا ويعمل موظفا عند كفيله. وهذا أيضا لا خلاف حوله لو أن الرجل كان يقدم خدمات استثنائية علمية أو اقتصادية تبرر ذلك، فالله هو الرازق المغني، ولكن هذا الرجل لا يملك أي مؤهلات حقيقية وكان راتبه متناسباً مع ذلك قبل أن يبدأ ممارسة التجارة في مناطق مختلفة من المملكة بأسماء آخرين!! القضية لا تزال أمام المحكمة للنظر فيها، ولم تتوقف المحكمة عند الوافد بل طالت رجل أعمال شهير بتهمة التستر عليه!! ويبدوا أن هذا الوافد عمل على المكشوف لأنه اعتقد أنه يمارس عملاً نظاميا. ويقال إن هذا هو دأب بعض العاملين عند مكفوليهم، إذا عملوا للكفيل لا يخلصون له أو ربما يتراخون عمداً في العمل حتى يخسر ثم يعرضون عليه استلام العمل كاملاً مقابل مردود مالي ثابت له، وفور موافقته يحلقون بالعمل والأرباح في السماء ويدفعون له بجزء يسير منها.
بطبيعة الحال هذه ممارسات غير مشروعة وغير مقبولة ومخالفة للأنظمة في المملكة، كما فيها تعد واضح على أنظمة البلاد وحقوق مواطنيها سواء من الوافد أو المتستر. والمؤسف أنه عندما ذكر هذا الموضوع أما مجموعة من المواطنين، ابتسموا! وقال أحدهم، ممن يعرفون السوق كما وصف، هل من جديد؟ هذه قطرة من محيط! فهذا هو حال السوق لدينا، بين متستر ومتستر عليه. والوافدون كما يشاع تجاوزوا مرحلة الاستفادة من التستر إلى ممارسته، أي أنه في سوقنا قد تجد متسترا عليه يتستر على وافد أخر بالسجل ذاته الذي يتلاعب به. وهناك بضائع وخدمات تضاعف سعرها بعد أن احتكرها بعض الوافدين، وهم ببساطة يضيفون ما يدفعونه للكفيل على الزبون. وبعض المهن لدينا أصبحت شبه محتكرة لجنسيات وافدة يتحكمون فيها جملة وقطاعيا، وهم يقطعون جميع السبل على المواطنين الذين يحاولون مشاركتهم أو منافستهم. وبعضهم ورث أعماله من مستثمرين محليين أسسوا الأعمال وباعوها له ليرتاحوا من عناء العمل.
وهنا على أن أذكر أن الجزء الأعظم من قطاع المقاولات بكافة أوجهه، بما في ذلك تجارة تجزئة مواد البناء هي تستر في تستر. تذهب لمحل مواد وتطلب مواد للبناء، أنابيب، كهرباء، بلاط الخ. فيخرج لك العامل في المحل إقامته ويطلب منك أن تكتب الشيك باسمه، ويكتب لك فاتورة باسم صاحب المحل الحقيقي، هكذا على عينك يا تاجر. كثير من المقاولون بمختلف قطاعات المقاولات يمتلكون أبواك عقود مختمة وموقعة بعضها لمؤسسات لا وجود لمقرات لها، ويقبضون الأموال الطائلة بشيكات لحسابهم. وذات مرة غضب كهربائي على «كفيله» وقال لي إنه يمنح هذا الكفيل 40 ألف ريال سنوياً عدا استقطاعات أخرى كقيمة الفيزا والإقامة وأعمال أخرى يقوم بها مجانا للكفيل! كل ذلك للسماح له بممارسة عمله بحرية. وليت الأمر توقف على ذلك فقد قال أنه يكفل 40 كهربائيا آخر يأخذ منهم المبالغ ذاتها. وهذا متستر فلنقل من الحجم المتوسط أو الصغير فما بالكم بالمتسترين الكبار. وقد اشتكى لي مقاول سعودي يعمل في مجال التكييف من خريجي المعهد المهني من مضايقة المتسترين لهم في أعمالهم. وفي ذات مرة اتضح أن أحد المتسترين في هذا المجال يعمل في جهة رقابية ولديه سجل محدود باسم زوجته ويمارس به أعمال ضخمة تتعلق معظمها ببناء المساجد حيث يجد قبولاً لدى المسئولين عن بنائها كأوقاف بسبب مظهره الديني.
لا أحد يجادل بأن التستر يحرم كثيراً من المواطنين من لقمة عيشهم، وهو سبب أساسي للبطالة، وبدون الحد أو القضاء عليه ستكون عملية القضاء على البطالة عملية شبه مستحيلة. كما أن التستر يرفع كلفة الأعمال ويزيد من نسبة الغلاء، إضافة لأخطاره الاجتماعية المختلفة فالمتستر لا يعبأ بما يفعله مكفوله ما دام يورد له مبلغ الكفالة والتكاليف الأخرى على رأس كل عام. ولذا يمكن القول أن التستر هو من أكثر أمراضنا الاقتصادية فتكاً بمجتمعنا ووظائف شبابنا، أي بمثابة «إنفلونزا اقتصادية» تهد من حيل مجتمعنا. والقضية التي ذكرتها الصحف هي غيض من فيض وهي ربما من أقلها ضرراً لأن العمالة لديها مكاتب خاصة لتحويل الأموال بعيداً عن انظار الأجهزة الرقابية. فاقتصادنا مصاب بما يمكن وصفه «بإنفلونزا التستر».
أما الحديث حول أفضل السبل لمحاربة «إنفلونزا التستر» هذه فيتلخص في التخلص من الفيروس المسبب له، والذي لم تستطع حلول وزارة العمل المنمقة القضاء عليه. فالتستر ببساطة هو منح عدد كبير من الفيز لمن لا يحتاجها ليتاجر بها. ولا شك أن أنظمة وزارة العمل تجرم هذا العمل وتعاقب عليه، ولكن وزارة العمل على ما يبدو لا يمكنها السيطرة على سوق الفيز بمجرد أن تدخل السوق. وهي في هذا الحال كمن يطلق جراد من كيس، فمن المستحيل متابعة الجراد أو القبض عليه بعد خروجه وانتشاره لإدخاله للكيس مرة أخرى. كما أن نظام نطاقات أثبت فعالية محدودة في ذلك وهو يكافئ السعودة، حتى ولو كانت وهمية، بمزيد من الفيز!! كما أننا نسمع عن فيز لا علاقة لها بنطاقات ولا بالسعودة وينظر لها على أنها «خارج الحصص». والمحزن، انه في الوقت ذاته، نسمع أن كثير من المشاريع الصادقة أوقفت بسبب عدم الحصول على الفيز اللازمة.
إذا لا بد من إيقاف الفيز لمن لا يحتاجها ويتاجر بها ومنحها لمن يحتاجها فعلاً ويضطر لشرائها من السوق السوداء. والحل إما أن يكون بإنشاء جهاز رقابي صارم يلاحق المتسترين بدقة واستمرار يرتبط بجهة عليا ولا يستثني أحدا، وينطلق من متابعة الفيز والتحري عنها من حاسب الوزارة ذاتها، ويتزامن ذلك مع إصدار تشريعات واضحة تنظم ذلك؛ أو الحل الآخر هو منح الفيز لكل من يطلبها وإغراق السوق بالفيز لخفض قيمتها وخفض جدوى الاتجار بها. ويتبع ذلك قصر بعض المهن كلياً على السعوديين، كالبيع في محلات القطاعي أو المهن المجدية مادياً كالكهرباء والميكانيكا مثلاً على من يحملون شهادات تأهيل من معاهد المملكة المهنية. وقد يسهم ذلك أيضاً في إعادة توزيع الثروة الوطنية بشكل أكثر عدلاً ونظامية. وليتنا نسمع رأي كبار علمائنا في هذه الممارسة المخالفة للأنظمة من ناحية شرعية لأن الكثير مما يمارسونه اليوم لا يعرفون الموقف الشرعي منها.