د. هلال محمد العسكر ">
تعتبر الانتخابات في المجالس البلدية أول خطوة نحو المشاركة الحقيقية في إدارة الشأن المحلي، إِذْ تتيح للمواطنين فرصة التعبير عن رأيهم فيمن يصلح لتسيير شؤون مدينتهم، بناء على وعود يقطعها المرشحون لتحمل المسؤولية مسبقا، وهي واجب وطني لأن المواطن هو من يتحمل مسؤولية وضع الإِنسان المناسب في المكان المناسب ومحاسبته.
اقتربت ساعة الحسم في انتخابات المجالس البلدية وظهرت أطراف التنافس في الميدان، وتبيّن من خلال الحملات الانتخابية تطور أساليب الدعاية لدى بعض المرشحين، بينما اكتفى بعضهم باستعمال نفس الأساليب التقليدية دون تطوير.
وما يلحظ على هذه الحملات الانتخابية هو اعتمادها على أساليب دعائية تستوجب أن يكون الناخب على بينة من أمره عبر الاطلاع على البرنامج الانتخابي، وفهم الحقل الدلالي المستعمل، بالإضافة إلى القدرة على التتبع والمقارنة ثم الاختيار ومحاسبة المنتخبين بعد ذلك. غير أنه يخشى أن الشريحة الاجتماعية المستهدفة قد يعاني بعض أفرادها من آفة الأمية التقنية والأمية الانتخابية، وبالتالي فإنَّ السؤال المطروح في واقع الحال هو كيف يمكن لشجرة الانتخابات أن تترعرع في أرض تسود فيها الأمية والجهل؟
إن العملية الانتخابية يمكن تصويرها على أنها عملية تعاقدية بين مصوت ومرشح من أجل القيام بتدبير الشأن المحلي خلال فترة معينة ومحددة بناء على الالتزامات الواردة في البرنامج المتفق عليه. ومعلوم أن الإرادة والرضا من مستلزمات وأركان العقد. فهل يملك الأمي المصوت / المتعاقد أهلية التعاقد مع المرشح على تسيير شؤونه المحلية وتنفيذ الالتزامات المتفق عليها؟
من الناحية النظامية، تعتبر أهلية الأمي المتعاقد غير سليمة ما دامت إرادته لا تكتمل إلا بالعلم والاطلاع والتأكد من معرفة تفاصيل العقد الذي سيقدم على الالتزام بمضامينه، كما أحاط النظام الأمي بعدة ضمانات تفاديا للاحتيال عليه واستغلال وضعيته من أجل تمرير التزامات يمكن ألا يعلم مضامينها وآثارها، باعتبار الأمية والجهل طريقان للوقوع في الغلط، ويجعلان إرادة المتعاقد ورضاه ناقصين عن درجة الاعتبار لأن إدراك حقيقة الشيء أساسي لاكتمال الرضا وشرعية الآثار المترتبة على التعاقد.
وإذا كان النظام قد أحاط الأمي المتعاقد في مجال العقود الخاصة بضمانات شتى حماية لوضعه ومصالحه الشخصية والاقتصادية، رغم أن آثار هذه العقود لا تتجاوز المتعاقدين نظرا لنسبية آثارها، فإنَّ الأجدر بالحماية هو المواطن الأمي الناخب نظرا لأن تصويته بمثابة تعاقد مع المرشح من أجل تولي تدبير شؤونه العامة وائتمانه على المال العام ومستقبل أولاده ووطنه، وبالتالي فإنَّ آثار تصويته تتجاوزه إلى كافة المواطنين المنتمين لدائرته بل إلى وطنه كاملا، وهو ما يجعل الحرص على تعليمه وتوعيته أشد من الاهتمام بالمرشح الذي قد يتوفر على فريق من الخبراء والمختصين الذين يساعدونه في تنفيذ البرنامج الانتخابي الذي تعاقد بخصوصه مع المواطنين.
إذن فالذين يتحدثون عن ضرورة كون المرشح ذا مؤهلات علمية نظرا لكونه يتولى تدبير الشأن المحلي ينبغي أن ينظروا للأمر بطريقة شمولية تجمع طرفي التعاقد معا، فلا يجوز التركيز فقط على ضرورة كون المرشح متعلما ومطلعا ومدركا وذا مؤهلات وتجربة، بل ينبغي أن يَتمَّ اشتراط عدم الأمية في الناخبين كذلك حتى تكتمل إرادتهم ويعبروا فعلا عن إرادتهم في اختيار من يمثلهم في تدبير الشأن المحلي وفق البرنامج الانتخابي المتفق عليه.
والمفارقة هي أن أغلبية المرشحين يعتمدون بشكل كبير على وسائل تقنية دون التنبه إلى أنه للاطلاع على مضامين هذه الحملة الانتخابية ينبغي بذل جهود جبارة لمحاربة آفة الأمية وبخاصة الأمية التقنية والأمية الانتخابية لدى بعض الناخبين، حيث إن الوسائل الحديثة التي يتم استعمالها تستلزم كون الناخبين على مستوى رفيع في مجال التعامل مع وسائل التقنية الحديثة التي يستخدمها المرشحون في عملية استقطاب الناخبين.
وبناء على ما ذكر أعلاه، فإنه من الثابت أن الانتخابات الصحيحة لا يمكن أن تترعرع في بيئة تسود فيها الأمية والجهل، وإن تحقيق النجاح في الامتحان الانتخابي يتوقف على تجفيف منابع الجهل وآفة الأمية بكافة أشكالها باعتبار أنه لئن استطاعت البلاد أن تجتاز مرحلة الانتخابات في المجالس البلدية بنجاح، فإنَّ اكتمال الصرح الانتخابي لن يتم إلا بتعبير المواطنين بشكل فعلي وحقيقي عن إرادتهم، وذلك لن يتحقق إلا حينما يدرك المواطنون أنهم، بالتصويت، يتعاقدون مع منتخبيهم وفق برنامج تعاقدي محدد يستطيعون في آخر الوقت تقييم المنجزات ومحاسبة المنتخبين وفق نفس آلية الاختيار الأولى المتمثلة في صناديق الاقتراع.
قبل الختام يقول أفلاطون: «إن الثمن الذي يدفعه العامة والطيبون لقاء عدم مبالاتهم بالشؤون العامة هو أن يدير شأنهم الأشرار». والألف ميل تبدأ بخطوة.
ختاما نشيد بكافة الجهود التي بذلت في عملية الانتخابات، ونشكر كل ناخب استشعر واجبه الوطني وكل مرشح تقدم ليخدم وطنه ومجتمعه.