د.فوزية أبو خالد
منذ فتحت عيوني على نعمة الأدب وبدأت أنهل من ينابيع الإبداع وأنا ألحظ احتفاء الكتّاب والأدباء نساء ورجال بالكتابة عن الحزن والألم أضعافا مضاعفة عن الاحتفاء بالكتابة عن الفرح والأمل.
يمتد ذلك من بداية قرءات قطع المطالعة الإلزامية بمرحلة التعليم الإبتدائي التي خط بدايتها لجيلي المنفلوطي والمازني والرافعي والعقاد والزيات بكثير من ماء العين والأنفاس الحرى إلى مرحلة بداية التفلت من حيز الكتاب المدرسي والانطلاق لمرحلة المطالعة الحرة بمراهقتي التي تشكلت بمزيج من الأدب العربي والعالمي لبحيرة أحزان لم تنضب إلى اليوم.
فبقدر ما بللت أكمام مريولي دموع المنفلوطي تحت ظلال الزيزفون غرقت وسائدي ودفاتري من رسائل مي زيادرة وجبران خليل جبران ومن تباريح غربة ميخائيل نعيمة وإيليا أبوماضي من أدباء المهجر في تجديدهم وفي صراعهم مع القديم . وبقدر ما جرحتني احتفائية الحزن في صفصافة محمد عبدالحليم عبدالله وسقيفة صفا حمزة البوقري وبيوت لطيفة الزيات وأندلس رضوى عاشور بقدر ما عصرت فؤادي وطاردت مناماتي آلام فارتر ومرتفعات وذرينج وبؤساء فيكتور هيجو ونساء البرتو مورافيا وتشجنات الأخوة كازنوف وتفجعات أم جوركي. فلم يكف أزميل الكتابة منذ الأزل إلى اليوم عن حفر تنهدات غسان كنفاني على أرض البرتقال الحزين ولا عن نحت حجر الضحك بمركبات الحزن كما فعل بول كاويلو في الكيميائي ولا عن تغيير مكونات الماء بحبر تييري ولستروم في بكاء سجين الضمير زمن الحرب على ضفاف نهر بابليون.
لن أخوض في البعد الفلسفي لا الوجودي ولا الإبداعي في أسباب كلف الكتاب والأدباء بالكتابة عن الحزن أكثر من الفرح ليس لان ذلك من الأسرار التي قد يكمن سحرها في متعة الستر بأكثر من متعة الهتك ولكن لأن هذا السؤال ليس موضوعي بل موضوعي هو الفرح بالذات وعلى وجه التحديد.
فقد أحسست بنشوة الخروج على تواريخ الحزن الإبداعي والميداني معا حين وجدتني دون تخطيط مسبق وكأنني أرتكب جنحة خيال أختار «أفراح صغيرة» كعنوان لهذا المقال الذي يأتي من وحي بعض الأحداث الوطنية والشخصية التي أثلجت صدري هذا الأسبوع بما أشعر أنني أريد أن أتساقى كأس نشوته مع كل القراء.
فرح الانتخابات
أتخذ الفرح هنا شكل سرب من النساء المرشحات والناخبات. فلم تصدر يوم الجمعة والسبت والأحد صحيفة محلية أو أجنبية إلا وكان فيها صور وخبر من قلب الحدث. خرجت المملكة من الصندوق النمطي الأسود الذي طالما نظر إلينا العالم من خلاله وبدت البلاد سيدة تملك الحق والقدرة على قيادة نفسها بيد النساء والرجال من مواطنيها.
تحدثت «السي إن إن» عن ثلاثة أجيال من النساء خضن الانتخابات لأول مرة من الجدة التي عمرها يزيد على الثمانين عاما إلى الحفيدة التي للتو بلغت الثامنة عشرة. وتحدثت النيورك تايمز اليوم الأحد بالإسم وكذلك فعلت الواشنطن بوست عن فوز سالمة حزاب لبلدية مدركة تلك البلدة الطرفية الصغيرة، وفوز خضرا المبارك من القطيف ومعصومة رضا من الأحساء وهدى الجريسي من الرياض وعنيد الرويلي وحمدة الحازمي من الجوف وعيشة حمود من جيزان ولمى السليمان من جدة. وكانت كل من الصحيفتين تلفت النظر في إشاراتها لبعض الاسماء إلى ذلك التنوع في خلفية الموقف الإيجابي والتجاوبي مع داعي الإنتخابات من قبل مختلف الوان الطيف النسوي مذهبيا وجغرافيا. فجاءت مشاركة النساء تعبيراعن توق ووعي النساء لركوب عربة الإنتخابات لمزيد من تمكين النساء وخاصة في أمر تمكين المرأة من قيادة حياتها وحياة مجتمعها. وحسب رأي الأكاديمي د.عمر عبدالجبار فقد طغت أخبار مشاركة النساء في الانتخابات على أخبار الانتخابات نفسها. وذلك من وجهة نظر سيسيولوجية ليس فقط لأنها المرة الأولى التي يشارك فيها النساء في الانتخابات، ولكن أيضا لأن النساء أخذن أمر المشاركة بجدية كنوع من التحدي لمدى استعداد المرأة لتمثيل نفسها بالأصالة عن نفسها وبالنيابة عن مجتمعها وليس العكس, وكذلك كنوع من الاختبار لمدى استعدادها لتبوؤ مواقع قيادية بجدارة واقتدار وبروح كفاحية تنازل التحديات. وبهذا الصدد جاءتني من الرياض ومن أمريكا ومن دبي ومن لندن ومن لبنان ومن اليابان عدد من الإتصالات تسألني عن الإنتخابات البلدية على وجه العموم وتسألني عن فرح اسمه مشاركة النساء السعوديات في الإنتخابات على وجه التحديد . وعلى الرغم من انغماسي في مشاغل شخصية خاصة هذه الفترة فلم أستطع إلا أن أنشغل بمتابعة تفاصيل التفاصيل وإن عن بعد.
ولا غرو أن تحولت وسائل التواصل الاجتماعي إلى ما يشبه «ميدان التحرير» لتظاهرة هذا الفرح, فقد قشع دخول المرأة إلى تجربة الانتخابات ماعلق بتلك التجربة من غبار مراوحتها في السنوات الماضية. كما أن دخول النساء إلى هذه التجربة الإنتحابية قد عمل على إشعال جذوة الأمل من جديد بألا تقتصر التجربة الإنتخابية على المجالس البلدية بل تكون «بروفة» أولية لمزيد من النهج الديموقراطي في إدارة البلاد. ويبقى لنا عودة للموضوع لتناول تجربة الإنتخابات ومشاركة النساء فيها تناولا تحليليا معمقا.
فرح أسمه رهان المستقبل
من الملاحظ أنه من الجديد على الطبيعة المحافظة لسياسات المملكة الداخلية والخارجية الميل إلى التغيير بدل التأجيل والمبادرة بدل الانتظار. وإذا كانت بوادر ذلك المنحى قد بدأت نهاية التسعينات الميلادية بوتيرة تصاعدت في عهد الملك عبدالله رحمه الله في محاولة لطي صفحة الصحوة وما انطوت عليه من انكفاءات وأحادية وانعزالية أنتجت حوادث التفجيرات التي استهدفت أمن الدولة والمجتمع لتلك المرحلة, فإن العام الاول المشارف على الانتهاء من عهد الملك سلمان قد شهد بوادر أكثر تحديا لنزعة الإستكانة على الحركة ولنزعة المداراة على المبادرة على المستويين المحلي والخارجي. فعلى مستوى سياسة الإدارة العليا يمكن ملاحظة تلك الديناميكية السريعة في التغيير الوزاري. وبغض النظر عن حيثيات تلك التغيرات وبعيدا كل البعد عن التقييم لشخص أصحابها فإن ذلك يكشف عن وجه غير معهود في التعامل حسب مقتضيات الحاجة وليس حسب البرتوكول التقليدي لسياسة المملكة والتي كان يجرى إبانها احتفاظ الوزير بمنصبه وإن بلغ من العمر عتيا او بلغ السيل الزبى من تعثره الإداري. ونفس الشيء يمكن أن يقال عن سياسة المملكة في علاقاتها الخارجية في عدة قضايا مفصلية من حرب التحالف على الحوثيين إلى حرب التحالف على داعش بجانب مجهودها المتجلي في لقاء الرياض الأخير في العمل على لم شمل المعارضة السورية بهدف خلق حالة بديلة إن لم يكن للنظام السوري فلرئيسه الدموي بشار الشر.
ولعل موجة الفرح التي أعترت الكثير من مواقع التواصل بتعيين د. احمد العيسى وزيرا للتعليم تأتي كجزء من الإحتفاء بذلك النهج التجديدي غير المعهود في اختيار اصحاب مواقف نقدية جذرية للمشاركة في تحمل مسؤولية جهاز وزاري فشلت معه كل الحلول التأجيلية والتسكينية . فلعل سياسة الرؤية والإصلاح والتغيير تصبح بديلا لبنية الجمود والضبابية والتخبط.
وستكون لي أيضا عودة للحديث عن الآفاق المتوقعة للتفكير النقدي الإبداعي خارج الصندوق من د. أحمد العيسى مع الدعاء بأن ينفع الله التعليم بهذا الرجل المستنير فلا يفقد بصيرته النيرة لا بفعل العتمة المتراكمة في الوزارة ولاببريق الكرسي أو قيوده القاسية .
فرح اسمه بنات بلدي
وتجسد ذلك الفرح في حلم وفيلم طفول العقبي, كما أسمته, الذي قامت فيه بتقديم تسجيل وثائقي لتاريخ أول تجربة انتخابية تخوضها المرأة السعودية عبر وعاء اليوتيوب الإلكتروني. وهذه هي تجربتها الثانية التي تعتبر انبثاقا عن تجربتها الأولى في فيلم سحر أسود الذي تناولت فيه الحقوق السياسية للمرأة السعودية. رابط الفيلم
https://www.youtube.com/watch?v=iqtKxBsPx6U