د. حمزة السالم
الاقتصاد أقل العلوم غزارة وأسهلها فهماً إلا أنه أوسعها إحاطة وأمنعها على العقول إدراكاً وأصعبها على الإطلاق تطبيقاً.. فالاقتصاد علم محدود يعتمد على منطق بسيط لكنه عميق ودقيق.. فهو علم منطقي يتبع سلوك التجمعات الإنسانية في أسواقها.. وهنا تكمن مَنعَته وصعوبته.. فلا يستطيع أن يفهم الاقتصاد إلا ذو نفس مكاشفة لنفسها خلقة، وعقلية لا يحجب منطقها التغيُّرات والتبدُّلات.. فسلوك البشر في الأسواق أبعد ما يكون عن المثالية، وأقرب ما يكون للتبدُّل والتحوُّل.. ولذا أَفشَلُ التنظيرات الاقتصادية أكثرها مثالية.
من قبل ثلاثة أشهر كتبت مقالاً بعنوان: «عسى أن لا نكون نقترض من احتياطياتنا».. وقد كان المقال مجرد استرسال عقلي (لا بحثي) في ردي على تصريحات سطحية غير دقيقة، لاقتصادي مشهور، في طاقة البنوك لتمويل الدولة.. وتوقعت أن الرسالة الأهم قد وصلت، فنسيت الموضوع، ولكن يظهر أنها لم تصل.
فالدولة تقترض بالريال السعودي من البنوك لتسددها مرتين.. مرة للبنوك ومرة بسحبها من الاحتياطيات. والوقوع في خطأ عظيم كهذا، إنما هو مجرد بعض سلبيات التبعية للمستشار الأجنبي الذي لن يستطيع التكيف ليتصور حال اقتصادنا حقيقة.. فهو وإن كان خطأ غير مقصودٍ في أصله والله أعلم، إلا أن الإصرار على إخفاء المعلومات وتمويهها، فيه مجال تهمة لفساد إداري وعلمي ومهني ولا يبعد أن يكون بعضه مالياً.. (فأسوأ الوزارات في مصادر المعلومات وزارة المالية خصوصاً فلا ينازعها في المركز الأخير أحد.. وتأتي مؤسسة النقد مع غيرها في سوء معلوماتها، - نسبة لأهمية شفافيتهما وكثرة معلوماتهما وتفرعها -).
* وكوننا نختلف عن الدول الأخرى في عملية الاقتراض هو كون اقتصادنا وسوقنا وحركة نقودنا كلها قائمة على الميزانية، فجميع دخل الدولة من النفط مباشرة أو غير مباشرة أي من عوائد النفط من استثمارات متنوعة.. وأما مصروفاتها فجميعها، أكثر منه، سيجد طريقه للسوق الدولية.. فما تقترضه الدولة من البنوك من الريالات بيد لتعطيه لأبنائها وتصرفه على مشاريعهم محلياً، تعود وتبدّله لهم بالدولارات باليد الأخرى من احتياطياتها الأجنبية، أو دخل البترول، أو ما تقترضه بعملة أجنبية.. ونادراً ما تأتي سنة تكون فيها الريالات الخارجة أقل من المصروفات الفعلية للدولة، وبخاصة في سنوات الشدة.. ومتوسط الفرق بين حجم الصرف الفعلي والخارج من النقد من عام 1973 إلى 2014 حول فرق سلبي بـ 21 ملياراً سنوياً تزيد على مصروفات الميزانية تخرج من السعودية، وهذا من دون حساب عام 1990.
* فليس هناك فرق مطلقاً من حيث فكرة الميزانية السعودية في سنوات الطفرة عنها في سنوات الشدة.. فالميزانية السعودية - كنظام النقد السعودي - تعمل على الديناميكية القديمة (كنظام الذهب)، فلهذا أستغرب أن لا يفهمها الناس.. فكما كان قديماً فالحكومة تسك فلوساً مقابل ما عندها من الذهب.. وهذه الفلوس صالحة داخل الدولة فمتى خرجت فلا بد من استبدالها بالذهب.
* فالحكومة تبيع البترول بالدولار وتقدمه لمؤسسة النقد التي تصدر مقابلها ريالات.. فتصرفها الدولة على الناس فيأخذها الناس ويخرجونها سريعاً للخارج لشراء حاجياتهم.. فهنا تسترد مؤسسة النقد الريالات وتتخلى عن الدولارات التي أعطتها إياها الدولة.
* والخطأ أتى من اختلاط وضعنا بالفكر الحديث للاقتصاد النقدي وطريقة عمل الميزانية والبنك المركزي، أي الديناميكية الحديثة.. وهو مفهوم قائم أساساً على أن البلد ينتج إنتاجاً حقيقياً لا صورياً.. فكل نشاطات المجتمع السعودي قائمة على الميزانية بدليل - على حسب ما توفر لي سريعاً بعد منتصف الليل من معلومات بعض الدول - إنها الميزانية الوحيدة تقريباً في العالم التي يقارب أو يزيد حجمها على حجم عرض النقود!.
هذا شيء مهول مريع، فهذا يعني أن المجتمع لا ينتج شيئاً مطلقاً. حتى دوران النقد ومضاعفاته قائم على الإنفاق الحكومي.. ولا تجد لمثل هذا شبيهاً قط، في دول العالم ولا توجد له نظريات في علم الاقتصاد، ولهذا يصعب تصور المسألة على الأجنبي، أو يسهل عليه التلاعب بنا، وبخاصة في اعتماد العقل السعودي على المستشار وخلوده للدّعة منذ عقود طويلة، فلا المستشار مدرك للوضع أو مخلص النية، ولا العقل السعودي الاقتصادي اعتاد الاعتماد على نفسه ولو على الأقل بتوجيه المستشار.
* ولأقرِّب المفهوم، فاقتصادنا كاقتصاد مزرعة كبيرة فيها عوائل لحمة واحدة.. فهم يزرعون القمح ليأكلوه.
وكلما زاد إنتاجهم لقمحهم زادت رفاهيتهم.. ولكن قمحهم لا ينتج بذوراً مُخصبة بل بذوراً عقيمة لا تنتج قمحاً.. وسيد المزرعة يملك منجماً للذهب.. فإن أنتج المنجم الذهب، اشترى السيد لهم بذوراً من السوق بالذهب وأُتي بها لهم ليزرعوها، فكلما زاد إنتاج المنجم كلما اشترى لهم بذوراً أكثر فزرعوا أكثر وأكلوا أكثر وازدادوا سروراً وسُمناً، ولكن لو انقطع منجم الذهب لعجز صاحب المزرعة عن شراء البذور.. فهل يعقل أن يقوم السيد باستدانة بذور داخل مزرعته، وهي بذور عقيمة.. فقد فعل، اللهم إنه استبدلها من بذور اشتراها من الخارج من ذهبه الذي أراد توفيره بالاستدانة.
* وللبذور جانب تشبيهي آخر.. فالقمح هو ما نبنيه من جامعات وطرق وبيوت، والبذور هي الفكر والمحرك الاقتصادي الذي يحقق النمو.. ولذا نحن لا نحقق التنمية ولا تنفعنا ماكنزي.
* ولذا تحمَّلت الدولة ديناً محلياً ثم عادت وخسرت مقابله بالضبط أو أكثر من احتياطياتها، وهي تفعل الآن الشيء نفسه ولكن بخفية وسرية مع البنوك. ولِمَ السرية؟ لا لشيء، إلا أن وجدنا آباءنا كذلك يفعلون؟.. ولهذا سنأكل المقلب مرة أخرى، لنتحمّل ديناً محلياً ندفعه من احتياطياتنا ودخل بترولنا.
* أصعب المشاكل وأعوصها على الحل غالباً تكون أبسطها وأوضحها، ولذا يصعب على الغير تقبُّلها، فيجحدونها بقصد وبغير قصد.. ويسهل عليهم جحودها عدم تصديق الغالبية لبساطة الأمر، ولذا يستمرون على الخطأ عناداً ولكي لا يظهر الأمر للعامة.. كدحض دعوى ربوية النقد.
صعبت عليهم لسهولتها، وكعدم فهم الغالبية لانكشاف البنوك في اكتتاب الأهلي، لوضوحه وظهوره وعظمة حجمه وخطورة جرمه.. فالله المستعان.