حكاية صحفي يمني في سجون «الحوثيين» - الحلقة الرابعة ">
- أتذكر جيداً وقفتي المتهالكة مع طابور السجناء لإثبات وجودي أمام مُعقب السجن «عبدالله سعيد»، كان حصر السجناء وعدّهم إجراء أسبوعياً تقوم به إدارة السجن للتحقق من اكتمال العدد ورفعه إلى جهات الضبط العليا في وزارة الداخلية، كنا نساق إلى باحة السجن وينادي المعقب بأسمائنا، أشعر بالخجل إذا ارتفع اسمي عبر مكبرات الصوت، فأرفع يدي بارتباك واضح!، لم تكن هذه البقعة المحاصرة من الأرض تنفع لأقضي بها أيامي التعيسات، ولم أكن مذنباً حقيقياً، كان الشعور بالعجز أمام كل تلك القوة الحوثية الغاشمة يجعلني أغتلي بخليط دائم من الصمود والوهن والضعف والانكسار والعناد والحقد، لم أكن أعرف نهاية لهذه القصة، لم أتوقع شيئاً أسوأ من هذا، غير أني كنت أشعر بالأمل مع كثرة وفود الزائرين الذين أمطروني بكرمهم وأعواد القات الفاخر!، ورغم كل ذلك الفيض كان باب السجن على بعد أمتار قليلة مني وكنت عاجزاً عن تجاوزه!.
- كانت المعركة الحقيقية هي إزاحة الحوثيين عني، وإحراجهم ميدانياً لوقف سلسلة إجراءاتهم وتحقيقاتهم المكثفة لإيجاد ثغرة ما ينفذون منها إليّ، ويقنعون الناس بأنها سبب اعتقالي وأنهم كانوا رُسل العدالة، وأن أخلاقهم لا تسمح باختطافي!!، جاءني في اليوم العاشر رئيس فرع حزب المؤتمر الشعبي العام بالمحافظة واسمه «حسن عبدالرزاق»، جلسنا على رصيف إسمنتي عند مبنى المخبز الرئيسي للسجن، وهو مبنى من الحجارة الملونة من خمسة مبانٍ متفرقة بداخل أسوار السجن الكبير، قال إن ابن عمه وهو متنفذ داخل الجماعة الحوثية يطلبه مشاهده قناة «المسيرة» التي ستبث تقريراً إخبارياً يحاول إقناع المشاهدين بأني مرتبط ومتورط مع حزب التجمع اليمني للإصلاح!
كان الأمر أشبه بمسرحية هزلية بغيضة، وإعدام علني بلا محاكمة ولا قاض ولا أدلة، كنتُ أصارع الهيمنة عارياً، وما أقسى أن تكون مكبلاً بالقيود أمام مجموعة من الأذلة التي جمعوا أسلحتهم على مدى خمسين عاماً من الجمهورية الرخوة ليعودوا مجدداً، فيقتلوك باسمها!، يستخدمون (الكُنى) للهروب من أسمائهم، وعادة ما يتواجدون مُلثمين، يخشون أن يتعرف إليهم الناس، فينقلبوا عليهم بعد ضعفهم وإنهيار قدراتهم البائسة التي لا تجد لها حاضنة شعبية، وهكذا يرون أن الكلمة الذكية تقتلهم، التوعية بخطورتهم، وتفكيك مشروعهم من داخل العقل اليمني الأصيل، يُحوّل خلية «إيران» إلى إرهابيين واضحين يستطيع المجتمع أن يدافع عن نفسه وينفيهم من سلطته ووجوده ودولته، وما كل هذا التوحش الذي يواجهه اليمنيون إلا لأن الحوثية الهاشمية تورطت في أمر أكبر من قدراتها، والتهمت وطناً كبيراً لم تستطع هضمه، وقد سبب لها نزفاً حاداً قضى على كل كتائبها العقدية المسلحة، فاستغاثت العصابة بقبائل اليمن الموالية لها من بعض المناطق المعروفة بولائها العبودي للإمامية التاريخية، وبالوعي المكثف، ستُدرِك الجماعة أنها تموت وتحتضر، ولن تجد لها عدواً جديداً يمكنها من الاستمرار.
- قلت في صحيفة «حديث المدينة» أن الحوثيين يريدون قتلي في الظلام، مستغلين كل هذا الضجيج المفبرك الذي تتناوله قنواتهم، وترصده وسائل إعلامهم المُوجّه، لإدانتي إعلامياً بأبشع التهم التي تتعلق بنزاهتي الشخصية دون أن أجد لنفسي محاكمة عادلة وحقيقية تبرأني أو تدينني، كنت أدفع باتجاه تسليم ما لدى الحوثيين من أوراق إلى يد المحكمة التي لا تخضع لابتزازهم، فتنظر في أمري وأمرهم، وتحكم بما يقول الله في شرعه ودستوره، وكانوا خائفين من ذلك، يعلقونني بمشنقة النيابة العامة التي تُماطل في تحقيقها، وفي كل يوم تأتيني باختراع جديد من التهم، ويستصدر الحوثيون قراراً من محكمتهم الثورية الخاصة، ويستمر أسري؛ ومحاولة النيل مني في جنح الظلام.
- وفي هذه العتمة قررت الخروج إلى الضوء، كنت أتنقل بنشاط من زنزانة إلى أخرى لتناول القات مع السجناء، وفي أعراف السجن يُعامل الزائر لزنزانة غير زنزانته، كما تُعامِل القبائل ضيوفها المُقبلين من مناطق أخرى بالترحيب والتكريم والحفاوة، وفي كل يوم كنت أحفزهم لإجراء انتخابات داخلية، وتكوين نقابة تُعنى بشؤونهم، وتضمن حقوقهم القانونية ومحاكمتهم دون تأخير.. وفي ظل هذا النشاط توافد العشرات إلى زنزانتي، كانوا يشرحون معاناتهم بألم، اتفقنا على تشكيل لجنة إعلامية، ولجنة لإدارة النشاط الرياضي، ورئاسة مؤقتة للتحضير لانتخابات عامة، وفّرت اللجنة عشر عبوات صفراء بلاستيكية كبيرة من تلك التي تُصنع للزيت النباتي لاستخدامها كصناديق إنتخابية، وكان التوافق ظاهراً عند معظم السجناء على شخص «عبدالجبار طربوس» رئيساً للنقابة، بدوري أعلنت تشكيل منظمة إنسانية تُعنى بحقوق سجناء «ذمار»، وتدفع عنهم، ساهمت المنظمة في إطلاق أحد عشر سجيناً، وتوفير الأدوية المجانية بمساعدات شخصية من بعض العيادات الطبية، ودفع كسوة العيد لأكثر من عشرين سجيناً، كنت أسعى بكل طاقتي إلى محاصرة الحصار، وكسر قيود الأسر بالمزيد من الأعمال الإنسانية، والاجتماعية، كنتُ مُصراً على تحويل زنزانتي إلى رمال متحركة، تبتلع وحشية الحوثيين الظالمين، وتقهرهم.
- كنت أفكر بمحبة هؤلاء السجناء الضحايا الذين حاصرهم المجتمع والنظام المنافق داخل هذا السور المرتفع دون أن يمنحوهم فرصة أخرى ليكونوا صالحين في واقع لا يعترف بالفضيلة ويحرض ضدها علناً، كنت أريد فعل أشياءً كثيرة تنفعهم، كتبت عنهم، ونشرته في الصحف المحلية، أردت أن يلتفت الناس إليهم، فهم لا يملكون صوتاً مسموعاً في الإعلام، واهتديت إلى إقامة بطولة رياضية، رحب مدير عام الشباب والرياضة بمحافظتي بذلك، وبادر في شراء ملابس رياضية للسجناء وكرات قدم، وشباكاً للعبة الطائرة، وعشرين لعبة شطرنج، وأوراق باصرة، وتم بتشكيل خمس فرق رياضية، وسلمنا لكل فريق ملابسهم الرياضية المختلفة، وبدأت البطولة، كان الجو حماسياً، وفي أوان العصر من كل يوم تلتهب ساحة السجن بالمشجعين واللاعبين، وكصورة أخرى من صور الحماس استثمرت صداقتي بمدير عام الأوقاف الدينية لإصلاح حال جامع السجن الذي لم يشهد أي ترميم منذ سبعة أعوام، كتبت مذكرة بإسم مدير السجن واقنعته بتوقيعها، ذهب مندوبهم إلى هناك الأوقاف، حيث خرجت لجنة فنية لدراسة وضع الجامع وحُددت لهم الاحتياجات من الفراش والمعدات الصوتية، وكتب الدين، قالوا إنهم سيعيدون تأثيث الجامع في رمضان الفائت، وقد فعلوا.، بدأت أيضاً مع فريقي المصغر في توزيع الصحف المجانية لأول مرة منذ تأسيس السجن على النزلاء ،حيث تبرعت أربع صحف أهلية بخمسين نسخة مجانية من إصدارتها اليومية والأسبوعية، ومساهمة في التوعية تحمس مدير مكتبة البردوني العامة لتلك الأنشطة وبادر لإنشاء مكتبة مصغرة وقاعة للمطالعة بداخل السجن مشترطاً توفير المكان الملائم لذلك، إلا أن عنابر السجن كانت ممتلئة عن آخرها بفائض يفوق أربعة أضعاف ما يمكن للمبنى استيعابه.
- ظهرت القضايا إلى العلن، تنهد «ناصر حرقدة» وهو شاب قضى ست سنين في السجن تنفيذاً لحكم نهائي حدد ثلاث سنوات فقط لعقوبته، فزادته النيابة العامة ثلاثاً فوق عقوبته، و»حسان العرامي» شاب ظريف سرق لنفسه عشر تفاحات من محل فواكه جارهم البخيل فاكتشفه حُراس الأمن الذين اقتادوه وقد أكل خمساً منها، فنهبوا الخمس الأخرى وأكلوها، وقضى عليه القاضي بسنة مع وقف التنفيذ، ومنذ ستة أشهر ما زال والده العجوز يأتي إليه ثلاث مرات في الأسبوع، يتحدث معه من خلف الشباك الحديدي، ثم يغادر إلى قريته، ويعود في الصباح الباكر لمتابعة الإفراج عن ابنه!.
- حذّرني بعض السجناء من عقوبة هذه الأفكار الثورية، وأنها ستودي بي إلى السجن الانفرادي، وبالفعل استدعاني مدير السجن وهو عقيد من الضالع اسمه «قاسم المفلحي» في صباح الأسبوع النشيط ليعلن انزعاجه الكبير مما يحدث، قال إنه يستطيع أن يفعل أشياءً كثيرة تؤذيني، لم يكن يستطع إخفاء طيبته وإبتسامته، لقد كان فاسداً، لكنه صبور ومقتدر ومطواعاً مُدهشاً في يد الحوثيين، يصرخ، ويضرب يديه في الهواء، يفتح فمه على ثلاث أسنان لا يهتم بتنظيفها، وكرشه مندلقة إلى منتصف ساقه؛ كأنما أغمي عليها من الحر!.
- في الخارج.. ما زال زملاء العمل الحكومي بجامعة ذمار التي أعمل فيها بوظيفة مدير عام الإعلام مستمرين في وقفاتهم الاحتجاجية للمطالبة بالإفراج عني دون تأخير، كان الزخم حقيقياً، وقد بدأت حركة رفض الشعبية في الخروج العلني لأول مرة منذ سيطرة الحوثيين على المحافظة بمسيرات جماهيرية حاشدة أدهشت كل المراقبين والمتابعين، ونالت نصيبها من التغطية الإعلامية والاهتمام الفائق لمدوني الصفحات الإليكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي، ولأول مرة شعرت بالدهشة والحب، كانت صوري معلقة بأحجام كبيرة على رؤوس المئات من المشاركين في المظاهرة، والصور اللاصقة متعددة المقاسات في صدورهم، انتشرت صور ضوئية لمقالاتي السابقة التي أودت بي إلى السجن، تناقلها الناس للتعرف على هذا الصحفي الأسير، هذه هي المرة الأولى التي أدركت فيها براءة وعمق وعظمة الإنسان اليمني الأصيل.
- سعت المظاهرات التي كانت تخرج يوم الخميس من كل أسبوع إلى تقديم نموذج حي من الرفض الشعبي الواعي لإدارة ميليشيا الحوثي وفرضها الخيارات الحربية بالقوة، ومصادرة حق اليمنيين في اختيار حاكمهم بالطريقة التي لا تُلغي إجماعهم عليه، وتوافقهم بشأنه وفق معايير قانونية ودستورية تمثل العَقد الاجتماعي بين الحاكم والمحكوم كإحدى أهم صيغ العلاقة الشرعية بين السلطة والناس التي تحددها أبسط مفاهيم علم الاجتماع الإنساني. وكنت في الواجهة كأحد الصحفيين المحليين الذين تعرضوا للاختطاف والإخفاء القسري من هذه الميليشيا السلالية التي كانت تنادي بمدنية الدولة، فأضمرت كل أحقادها وفاشيتها لتسيطر على كل شيء وتقبض أعناق الناس وتقتادهم إلى مصير مجهول.
- الأيام تمر ببطء، وفريق المحامين الذي تبرع للدفاع عني ينسحب فجأة من المشهد، علمت فيما بعد أنهم تلقوا تهديدات إن مضوا في شأنهم، وكان وكيل نيابة الأمن «محمد سفيان» الذي تعرض لتهديد الحوثيين في بداية الأمر قد خضع لهم بعد أن راضاه مشايخ قبليون و»أدسموا لحيته» -كما يقول المثل-، فصار جباراً عتياً بعد أن كان وديعاً متفهماً، بعثت إليه بمن يسأله عما وصلت إليه تحقيقاتهم فيجيب عليه: أنه مازال يبحث عن دليل إدانة!، فلمَ تسجنني يا رجل ما دمت لا تملك أي دليل سوى أقوال سفسطائي عجوز!، يهز كتفيه كالمستضعف: إنهم أنصار الله ولا قِبل لي بهم!!.
- ما يزال الحوثيون يهيمنون على مايقولون أنه ملف إدانتي، لا شيء فيه يستدعي ليلة واحدة من الأسر والاختطاف، كنت أخاطب الزائرين بأمنيتي في محاكمة عادلة وإجراءات قانونية لا تخضع لهيمنة الحوثيين وضغوطهم، ليدعوني وشأني، ويتركوا لي حق الدفاع عن نفسي، دحض ما يمكن من أقاويل قناة «المسيرة» التي تنشط بتقاريرها الاسبوعية المفرطة في الدجل والزيف والخداع، ومع كل يوم يمر تتعاظم الرغبة والقناعة لدى الكثير من العامة أن «الحوثيين» لا يستحقون الاستمرار في الحُكم، مثلما تتوالد صداقاتي الجديدة، أصدقاء الأسر الذين وقفوا معي بشجاعة، فما عُدت أُفرق بينهم والجبال، أحمد البياض، حسين الخلقي، محمد الصوفي، عدنان حيدر، شاجع المقدشي، الشهيد عبدالله قابل، عبدالله المنيفي، محمد حسين الرخمي، عبدالله قطران، صالح العزيزي، أحمد ربيد، نبلاء كثيرون جاؤوا ببراءتهم وصدقهم، ألفيتهم يتحصنون لدى باب السجن إلى جواري في وقت لا يُلام فيه الهاربين.
- استنسخ الحوثيون نظام ملالي «طهران» لتطبيقه في اليمن، آية الله الحوثي صنمٌ من التمر صنعته «قريش» اليمنية، يستطيع -»علي عبدالله صالح» إلتهامه بسهولة، لكنه مازال يحسب نفسه الزعيم «هُبل» الذي يحتاج لبعض المشركين «المتحوثين» الصغار، الطغيان الهاشمي لما يسمى اللجان الثورية التي توزعت في مختلف المرافق والمؤسسات الحكومية بمثابة وظائف جديدة تدّعي رقابة دوائر النظام التنفيذية والإدارية وقد مارست هذه المناصب المخالفة للدستور والقانون فساداً لم يشهد التاريخ اليمني نظيره في أسوء المراحل وأشدها لؤماً وضعفاً ومهانة، يتحكم بإرهاب المواطنين جهاز «سافاك» أمني خاص للقبض على من يرونه خارجاً عن سيطرتهم بأي ذريعة، وجهازاً قضائياً يتولى أمره قاضٍ طاعن في السن يعمل بالمحكمة الابتدائية ويُصدر الأحكام الفورية التي لا تخضع لقوانين الجمهورية اليمنية ولا تقبل الاستئناف أو المراجعة، وفي النيابة أيضاً كان لهم نيابة ثورية تعمل على الإيقاع بالمواطنين والموظفين الرافضين لإدارتهم التسلطية في إدارة شئون العباد.
- قاضيهم الخاص اسمه «عبدالله الجرموزي» وهو قاضٍ هاشمي عجوز من مديرية عُتمة، ومعه قاضٍ آخر هاشمي اسمه «عبدالله عبدالله يحيى الديلمي» الابن الأكبر للقاضي والشاعر المعروف «عبدالله الديلمي» الذي اشتهر باستلامه الرشوة لمن يدفع أكثر، ومن النوادر أن أحد المتقاضين جاءه بمبلغ زهيد ليرشيه، فقال له يحثه على زيادته «والله ماهي بحق غطسة في جهنم»!، رئيس نيابتهم الثورية هاشمي اسمه «محمد المنصور» تناقلت الصحف الممولة من «صالح» في بداية الحرب النظامية على الحوثيين في 2004م انخراطه في العمل الإنقلابي على الجمهورية اليمنية، إلا أنه كان يُنكر ذلك ويتبرأ منه، أما رئيس شرطتهم فيشبه وحشي، عبداً أسود قال أنه هاشمي واسمه «عبدالله إدريس» كان الإمام أحمد حميد الدين متزوج بعمته، ولا أدري ماذا رأى فيها إن كانت تشبه ابن أخيها!، له مساعدان، هما: أبو حيدر «عبدالإله الديلمي»، وأبو حمزة واسمه الحقيقي «أحمد عبدالله الشرفي المحاقري» ينتمي هو ومسؤول الاغتيالات المكنى بـ»أبو نصر» واسمه الحقيقي «عبدالعزيز محمد خيران» إلى ريف رصابة التابع إدارياً لمحافظة ذمار، نهب الأخير سيارتي الخاصة واستخدمها في جرائم الاغتيالات، ونقل (مجاهديهم) إلى مدن أخرى خارج المحافظة، ورئيس رقابتهم الثورية شاب لئيم ومختال اسمه «همدان الأكوع» من قبيلة آنس المعروفة بعبوديتها التاريخية للإمامة، والده كان الملحق العسكري في السفارة اليمنية في لبنان، وهو أحد الذين طالبوا بإبادة الحوثيين في بيان نشره مع مجموعة من شباب الحركة الديمقراطية للتغيير في عام 2009م.
- ينتشر الحوثيون كمشرفين أمنيين على أقسام شرطة المدينة وكل المدن والمديريات كافة، صاروا أكبر من عصابة وأعظم من قبيلة، توحِّدُهم سلالة النسب الهاشمي، وتتحد مع سلطة الإقطاع والنفوذ المشيخي بتواطؤ كبير منها؛ لتقييد القبائل اليمنية بوهم القداسة الهاشمية والحق الإلهي في الحكم!.
- الحوثيون ليسوا مجرد حركة فاشية مسلحة تنتهي بانتفاء العدو الافتراضي الذي يخلقونه في كل هضبة ودار ؛ ليبرروا لأنفسهم وأنصارهم أحقية الجهاد العلني على من يقولون أنهم أتباع مِلة الصهاينة والأميركيين، إنهم تكرار لئيم لتوحد الهاشمية الخاملة في نسيج تاريخي متوارث من المفاهيم اللاهوتية في الحكم والثروة تسيطر على قناعات أفراد تلك السلالة، وتدفعهم إلى قتال اليمنيين الأصليين وإخضاعهم بالقوة عبر أدوات العشيرة ومفاتيحها المعروفة، المتمثلة في الشيخ والعاقل، ولم تكن القبيلة اليمنية قد تطورت في مفاهيمها الواعية كثيراً عما تركه إرث الإمامة فيها قبل ثلاثة وخمسين عاماً، ووجد الهاشميون في مقاتلي «صعدة» وتنظيم الشباب المؤمن الذي أسسه رجل الدين الراحل حسين بدر الدين الحوثي ضالتهم ؛ لتكوين نواة قاسية وصلبة، تصفق لها سلالة الهاشمية بحذر إلى أن تصل بها إلى صنعاء، وكانت تعتمد في ذلك المخطط الشيطاني على انقسام نظام الرئيس «علي عبدالله صالح» على نفسه، وانشطار أركانه إلى قطع صغيرة يسهل تصفيتها وإزاحتها من أمام الكتلة الجديدة التي تكبر ككرة الثلج، وقد واجهت امتحاناً عسيراً في الحرب الحكومية الأولى أودى بحياة مؤسسها «حسين الحوثي»، إلا أن صداع الهاشمية المزمن القريب من أذن الرئيس اليمني السابق أقنعه باستنزاف جناح الإخوان المسلمين العسكري بقيادة الجنرال «علي محسن الأحمر»، وتكليفه بإدارة ست حروب فاشلة مع الحوثيين انتهت على عتبات العام 2011م، وبدأ فيها التجمع اليمني للإصلاح بزعامة جناح القبيلة والنفوذ فيه باستثمار جروح صعدة، وقدّموا الحوثيين علناً لأول مرة إلى الشارع اليمني بوصفهم ثواراً يسعون إلى إسقاط نظام الرئيس «صالح» بمشاركة طيف واسع من القوى السياسية وتكتلات شبابية غاضبة من سوء إدارة الحكم.
- استخدم الحوثيون كافة وسائل الدولة الأمنية والعسكرية والقضائية لتحليل ممارساتهم القمعية بحق المواطنين والموظفين، طوعوا ملفات الفساد التي كانت تتخم ذمة كل قيادي بحزب المؤتمر الشعبي العام على طريقتهم، فإما يكون لهم أداة لتمرير ما يشاؤون ونهب ما يستطيعون من إمكانات الدولة أو أن يمضي إلى القضاء فاسداً بملف من إرشيف أجهزة الرقابة والمحاسبة، كان الحوثيون جادين في ملء السجون بالموظفين الحكوميين الذين خضعوا في الأخير لوسائل ترهيبهم وترغيبهم، وصار الأمر كيوم القيامة كل واحد منهم يهتم بشئونه وميزان حسناته!، غير أن الحوثيين لم يكونوا أنظف منهم، سال لعابهم وأفسدوا في تسعة أشهر مالم يفسده اليمنيون في ألف سنة، وأثروا ثراءً فاحشاً من أموال السوق السوداء وموازنات الدولة والوزارات واحتياطيات البنك المركزي الحكومي، يعتقدون أن كُناهم ستخفي شخصياتهم الحقيقية، وحين تدق ساعة الهروب يختفون بكل بساطة، وقد أُتخموا من أموال الشعب وثروته التي ظل يجمعها طيلة خمسين عاماً من عمر ثورة الجمهورية الحزينة.
للسجن اقتصاد، وإدارة، وضوابط صارمة تتخللها بعض انتهازيات جنود السجن الذين يسيطرون على الاستثمار الرابح هناك، ويتحكمون في استهلاك السجناء للمواد الغذائية. في باحة السجن أربعة دكاكين صغيرة لبيع المواد الغذائية المتنوعة والعصائر والمياه، وثلاثة مطابخ لتجهيز طلبات السجناء الخاصة، بأجر أقل مما هو شائع في الخارج. استطاع مدير السجن أن يغلق معمل الخياطة، ويبيع معدات معمل الأحجار الصناعية الذي كان يُدر دخلاً جيداً على أغلب السجناء، عقب أحداث الشغب العارمة قبل أربعة أعوام ؛ فتحول بعضهم بعد ذلك إلى بائعين للقات أو عمال لدى ملاك محال التموين، أو بائعي بطائق شحن، مثل هذه المبيعات لا يمكن تأجيل سدادها، ومن يتقاعس؛ يذهب به الجنود الغلاظ إلى السجن الانفرادي، حيث يقضي عقوبته مع أشر السجناء، وأبغضهم، وأكثرهم كراهية وعنفاً.
- لا يعني أن يتولى مجموعة من المحظوظين إدارة البلد أن يسكت الصحفيون وقادة الرأي عن هذه الهمجية الانقلابية، ما زلت أدافع عن الدستور رافضاً سحقه تحت أقدام أي إعلان دستوري آخر، وفي أحد المساءات اتصل بي مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة السابق إلى اليمن السيد «جمال بن عمر» الذي أبدى قلقه العميق على حريتي، مُستمعاً بإنصات إلى شرح مختصر ومكثف عن طرائق الإرهابيين الحوثيين في التعامل معي ومكائدهم في تشويه نزاهتي الصحفية، قال : أنا أعلم وأدرك أنهم يتحججون بأي شيء لإلقاء القبض على معارضيهم، لكني حريصٌ جداً على الإفراج عنك وفي القريب العاجل!.
- في اليوم التالي التقى الرجل بمجلس نقابة الصحفيين اليمنيين وأصدر بياناً يدين استمرار احتجازي ويتحدث عن ضرورة إخلاء سبيلي فوراً، كان أكثر رجولة من حزبي الباهت الذي لم يجرؤ على التململ ورفض الزواج الكاثوليكي المُحرم، إلا أن هروب الرئيس هادي إلى عدن طغى على أي حدث آخر، فقد قُتل عدد من أحفاده وأقاربه في طريق الهروب من صنعاء التي حاصرته، وبعد تدخل النائب «عبدالعزيز جباري» أصدر الرئيس من هناك أمره إلى النائب العام بسرعة الإفراج عني ؛ إلا أن أوامره لم تُنفذ، فقد كان النائب العام خاضعاً لسلطة الحوثيين ومتواطئاً معها، فيما كتائب الرئيس السابق «علي عبدالله صالح» تلاحق رئيس البلاد بحملة عسكرية ضخمة يحميها طيران الجيش الذي قصف قصره المسمى «معاشيق» في عدن، لكنه نجا بأعجوبة، وفي طريق الحملة سقطت قاعدة العند الإستراتيجية، ودخل الحوثيون إلى عدن، كانت اللحظات حاسمة، الحوثيون ينتشون بإنتصاراتهم، و»علي عبدالله صالح» يحدد للرئيس «هادي» بغرور منافذ الفرار خارج اليمن، وفي صبيحة الخميس الموافق 26 مارس 2015م، وتحديداً في الساعة الثانية فجراً.. قصفت دول التحالف العربي بقيادة المملكة العربية السعودية العاصمة صنعاء بطلب رسمي من الرئيس عبدربه منصور هادي بعثه إلى الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية ومجلس التعاون الخليجي، صُدم الحوثيون، صواريخ طائرات الخليج العربي وحلفائها تدمر القواعد العسكرية الرئيسية ومدرجات الطيران الحربي بقاعدة الديلمي الجوية ومطار صنعاء الدولي، كان اليمنيون يضجون في صفحات فيس بوك والمدونات الإليكترونية بين مرحب ومستنكر، كتبت في ذلك اليوم الذي لم ينم فيه أحد مقالاً نارياً بعنوان «قليل من الصراحة»، ما زلت أتذكر سخط أشياع الرئيس السابق عليه، وعليّ.. قلت بصدق ما يجب أن يقال، وتلقف الكثير ما كتبته بلهفه، فما كان ليجرؤ أحد حينذاك على إعلان موقفه من عاصفة الحزم، وكنت في السجن متحدياً بكل الخوف الذي يتملكني أي قرار يمكن أن يتخذه الحوثيون في حقي.
- امتلئ السجن في الصباح الباكر بسيارات الحوثيين وأطقماً أمنية تابعة لقوات الأمن المركزي، وجاءني المساعد مهرولاً يصيح في وجهي «ماذا فعلت» ؟، هربت إلى إحدى دورات المياه في زنزانة يطلقون عليها «الإعدام»، وهناك أخرجت هاتفي ومسحت كل ما فيه، واتلفت بطاقة الذاكرة الخارجية، جُعل الجنود يبحثون عني من زنزانة إلى أخرى، فخرجت إليهم، أخذوا هاتفي عِنوة، وبعد لحظات دخل مدير السجن إلى زنزانتي وطلب مني الخروج لمرافقته، كبلني بالأصفاد المعدنية، وذهبت معه مرتدياً زياً أزرق اللون يُستخدم رداءً للسجناء، وفي الفناء التقيت بمشايخ قبليين ينتمون لحزب الرئيس «صالح»، ووكيل محافظة ذمار المساعد «محمد عبدالرزاق» قالوا إنهم اقنعوا «أنصار الله - الحوثيين» بمغادرة المبنى، وتعهدوا أن يُودع هاتفي في أمانات السجن!، ووجهوا عتابهم الشديد لما كتبته، وأنه ليس جيداً ولا هذا وقته وأوانه، وبأن عليّ الحديث لقناة «المسيرة» لاستنكار ما تقوم به دول التحالف العربي في اليمن، والتصريح أن قضيتي «جنائية» وليس لها أي ارتباط بما أكتبه، في مقابل إخلاء سبيلي خلال ساعات!. كان ابتزازاً واضحاً..!.
- استطاع الحوثيون إلزام وإكراه العديد من المخُتَطَفين على ذمة بلاغات كيدية بإعلان انتماءهم إلى تنظيم القاعدة الإرهابي في مقابل إطلاق سراحهم الفوري، ظهر العديد من أولئك الشباب المساكين على قناة «المسيرة» التي استثمرت كل تلك التصريحات لإغواء الرأي العام المحلي وإقناعه بمهمة نبيلة يُقدم لأجلها الحوثيون أبرز شبابهم وعناصرهم لإنقاذ المواطنين من إرهاب من يسمونهم «الدواعش» نسبة إلى تنظيم الدولة الإسلامية الذي ظهر حديثاً في العراق والشام ومارس صنوفاً من التنكيل والإرهاب الدموي المرعب على السكان الآمنين، كُنت عنيداً!، ولا أدري كيف استطعت مواجهة تلك الضغوط الهائلة والتهديدات المستمرة، وتحقيقات النيابة العامة تسألني عن إدعاءات جديدة يقولها الحوثيون ويكتبونها باسم «السعودي البدين» كحكاية جديدة يلهون بها أولئك الذين يهتموا لأمري، وبعد خمسين يوماً من السجن بدأت المحاكمة، قال لي وكيل النيابة في ذلك اليوم أنه لا يستطيع أن يسجنني أكثر من ذلك، ولأنه لا يطيق الإفراج عني ومواجهة الحوثيين الذين قد يفصلونه من عمله، أحالني إلى قاضي المحكمة الإبتدائية الجديد واسمه «عادل العزاني»، وكان عليّ مواجهة فصلاً آخراً من التحدي الحوثي، وأعترف أني توجست ظُلم القاضي الذي أحسست أنه جاء من أجلي، ليضربني بالقاضية!.
... يتبع
سام الغباري