د. هلال محمد العسكر ">
القادة لا يطورهم التدريب أو التعليم والتربية ولا المناصب ولا الصلاحيات ولا الألقاب ولا الأموال ولا الأعراق أو الأجناس ولا الواسطة ولا المديرون ولا حتى الذكاء والأفكار العظيمة؛ القادة لا يطورهم إلا قدراتهم الفذة وطموحهم الكبير وعزائمهم الشامخة ومواهبهم المتعددة ونموهم المتدرج مع الممارسة ومعايشة الأحداث والمعاناة والأزمات والمحن.
إن عالمنا يعج بالأذكياء والمشاكل الكبيرة التي تبحث عن حلول، ولكنه يفتقر وبدرجة كبيرة إلى القادة الذين يلتزمون بحل هذه المشاكل ومواجهتها بعزم وكفاية واقتدار، وبأسرع وقت، وأقل جهد، وخسائر ممكنة.
هناك خطأ إستراتيجي يرتكبه بشكل أو بآخر بعض رواد الأعمال، وهو البحث عن القادة وتعيينهم، بدلا عن العمل على تطوير قادة من داخل المنشأة، مع أن نتيجة البحث عن القادة وتعيينهم لا تحمد عقباها، لأنه يستحيل استمرار القادة في بيئة العمل التقليدية التي تحد من قدراتهم، ولأن قيادة القادة ليست بالأمر السهل، ولأن المدير مهما علت مرتبته لا يمكنه أن يطور القادة.
مؤخراً أتيحت لي فرصة العمل -مرة أخرى- مع مدير سبق أن عملت معه سنوات عديدة، وفي أول لقاء جمعنا، قام بتعيين فريق قيادي، وخلال فترة عملي، قدرت للفريق أن بعض أعضائه قوي وبعضهم ضعيف، وظننت أنه مع الوقت سيتم خروج القادة الضعيفين واستمرار الأقوياء، ولكن مع الأيام دهشت، إذ تبين لي أني كنت مخطئا فالذي خرج من الفريق هم القادة الأقوياء، وبقي الآخرون الذين لا يختلفون عن غيرهم شيئا!! فما الذي حدث بالضبط؟
الذي حدث أن القيادة الضعيفة للقادة نتيجتها أمران لا ثالث لهما: إما أن يغادر القادة الأقوياء، أو يصبحوا ناسا عاديين كغيرهم ويتأقلموا مع الوضع القائم كأتباع لا قادة.
لذلك ننصح رواد الأعمال بضرورة الاهتمام بتطوير القادة، والأخذ في الحسبان أن ذلك أفضل بكثير من تعيينهم وقيادتهم؛ فالقائد حينما يعامل كتابع، يقيد ويحد من قدراته ويحرم من الاستقلالية والتفكير في قيادة الآخرين؛ فالفرق كبير جدا بين قيادة فريق من خلال شخص ما وبين قيادة شخص ما لفريق؛ قيادة شخص ما لفريق تعني بناء قائد، وبناء القائد يتطلب إعطاء هذا القائد مساحة وحدودا واضحة من الأهداف مع تدخلات محدودة في عمله.، ورسم حدود واضحة المعالم، لتجنب الاصطدام معه حينما تتقاطع المهام والمسؤوليات والأوامر والتعليمات.
كما يتطلب تطوير القادة أن تكون الأهداف التي يطلب منهم تحقيقها تفوق الأداء الذي يستطيعون أداءه بأنفسهم، لأنهم دائما يحتاجون إلى جبال شاهقة في صعودها تحدياً لهم؛ أي أن القائد يعشق التحدي، وهذا بطبيعة الحال يشجعه على إشراك الناس، ورسم الاتجاهات والتوجهات ويدفع للإنجاز؛ فالقائد إذا كانت الأهداف بحجم تفكيره وقدراته الشخصية ولا فيها ما يتحداه، يرى نفسه أنه تابع لا قائد، وبالتالي تنكمش مهاراته القيادية إلى حدها الأدنى.
أيضا يتطلب تطوير القادة أن يحدد لإنجازاتهم مواعيد أسرع من المعتاد؛ أي تحديهم بإنجاز الأهداف بوقت قصير جدا، قد يراه الآخرون مستحيلاً؛ فالوقت قاطع وحاسم، ومهم في بناء القادة، لأنه يتطلب إبداعا، وجهدا مضاعفا، وعزيمة وإصرارا، وقيادة لتحقيق الأهداف.
كذلك يتطلب تطوير القادة التدرج في خطوات التطوير؛ فالقائد ينمو مع زيادة التحديات في كل المراحل التي ينمو فيها، كما تنمو الأجسام، ويتطلب وبشكل منتظم، زيادة قدراته بالتدرج في التحدي لا بالتوجيهات وكثرة التفاصيل. القائد يحب التوجيه فقط عندما يطلبه، بينما التابع هو من يحب التوجيه في كل الأمور وكل الأحيان، كما أن القائد يراهن على المسؤولية، والوضوح كالشمس، ويحب أن تكون قيادته حاضرة لتوجيهه عند الحاجة.
إضافة إلى ما سبق يتطلب تطوير القادة أن تكون البيئة التي ينمو فيها القادة بيئة فيها تحد ومحفزات، لأن القائد لا يبني قراراته مهما تكن درجة أهميتها بناء على ما يسمع أو ما يشاهد أو ما يشعر؛ كما يفعل المديرون، وإنما يبنيها وفقا لمتطلبات الموقف وظروفه بعد الجمع بين ما يسمع وما يشاهد وما يشع، وبعد التدقيق والتركيز في تفاصيل التفاصيل، وطرح الأسئلة الصحيحة، وتحكيم العقل والمنطق لا العواطف وردود الفعل (عقلنة التفكير والقرار).
أختم هذه المقالة بالتأكيد على أن مديري السابق، ارتكب خطأ استراتيجيا - كرائد أعمال- حينما قام بتوظيف فريق من القادة، ليقود من خلالهم أعماله، وذلك بدلا من أن يبنيهم ويطورهم كقادة لا أتباع، لأنه وببساطة لا يمكن للمدير أن يصنع قائدا.
إن النتيجة المحزنة التي يجب أن نستلهم منها الدروس والعبرة لبناء القادة، أن مديري السابق في النهاية تعب وعجز بعد سنوات، وأصيبت أعماله التي كبرت بجهوده السابقة بالشلل، وأصبح الباقي من فريق عمله عالة عليه، يحتاجون توجيهاته في كل صغيرة وكبيرة، وأصبح منصبه كرائد من رواد الأعمال غير محبب لأحد، بل وانطبق عليه المثل الشعبي القائل: من لا يعرف الصقر يشويه!