تعد الشركات العائلية أو الشركات التي يسيطر عليها عائلة واحدة من أهم ركائز الاقتصاد العالمي. وأثبتت الدراسات الأخيرة، أن أكبر 10 شركات في العالم من حيث قيمتها السوقية هي شركات بدأت عائلية واستطاعت أن تتكيف مع المتغيرات مالياً وإدارياً، وتحولت إلى شركات مساهمة مكنها من الاستمرار والنمو والتطور. ففي الولايات المتحدة تمثل الشركات العائلية ثلث أكبر 500 شركة مدرجة في
مؤشرSالجزيرةP الأمريكي، وتتفوق على نظيرتها من الشركات الأخرى في الدخل وحجم الموظفين مما يعكس أهميتها الاقتصادية, حيث تمثل ما يقارب 90% من مجموع الشركات العاملة وتوظف نصف القوى العاملة هناك. وفي الشرق الأوسط تمثل الشركات العائلية 95% من الشركات العاملة، وتمثل 80% من إجمالي الناتج المحلي، و75% من الشركات الخاصة هي شركات تجارية توظف 70% من القوى العاملة. وفي المملكة تمثل الشركات العائلية أهمية كبيرة في نمو الاقتصاد الوطني وتعتبر من أكبر الشركات العاملة مقارنة بالشركات الأخرى حيث تعادل تقريبا نصف عدد أكبر 100 شركة عاملة بالمملكة وتمثل ما يقارب 95% من مجموع الكيانات التجارية باستثمارات تفوق 250 مليار ريال في السوق المحلي. رغم أهمية الكيانات التجارية العائلية إلا أنها تواجه أزمة صراع على البقاء، حيث تشير الإحصائيات العالمية على أن 30% فقط من الشركات العائلية تستمر وتنتقل إلى الجيل الثاني، 10-15% تنتقل إلى الجيل الثالث، 3-5% فقط تنتقل إلى الجيل الرابع. وكشفت دراسة اقتصادية حديثة لشركة KBMG السعودية، أن أكثر من 60% من الشركات العائلية السعودية لا تستمر إلى الجيل الثاني، كما أن 90% منها لا يستمر للجيل الثالث بسبب الخلافات بين الورثة، ويبلغ متوسط عمر الشركات العائلية نحو 24 عامًا فقط، كما أن 25% منها لا تملك رؤية واضحة للسنوات الخمس المقبلة.
هناك أزمة بقاء في الكيانات العائلية, حيث تعاني من التفكك والخلافات بين أفراد العائلة بعد وفاة المؤسس ومرضه مما ينتج عنه بيئة غير صحية للعمل تؤدي إلى انهيارها واندثارها. وتواجه العوائل التجارية تحديات كبيرة من أهمها الصراع على البقاء من الجيل المؤسس إلى الأبناء والأحفاد وهناك أمثلة كثيرة لعوائل تجارية عريقة بنت أسماء تجارية وثروات ضخمة على مر سنوات طويلة ولكنها اندثرت وانهارت في زمن قصير بعد رحيل المؤسس, حيث دب الخلاف بين الأبناء وعدم مقدرة البعض منهم على إدارة ثرواتهم.
نشأت الكيانات التجارية العائلية كعمل تجاري فردي من قبل المؤسس الذي كان لديه حب المغامرة والرغبة في تكوين عمل تجاري تحت إدارته. حيث قام المؤسس ببناء كيانات تجارية عريقة خلال سنوات طويلة وعانى فيها إلى أن وصلت تجارته إلى أكبر المؤسسات والشركات التجارية العاملة في المملكة وخارجها، وكان فيها الإصرار والعمل الدؤوب والأمانة هي ثقافة العمل وركاز هذه التجارة، ولكن المشكلة في الجيل المؤسس أنه فشل في نقل هذه الثقافة في العمل لديهم إلى الجيل الثاني من أبنائهم وعملوا على توفير الحياة السهلة والمترفة لهم لرغبتهم في عدم معاناة أبنائهم مما عانوه في بداياتهم من صعوبات الحياة مما أدى إلى جعل الأبناء مفصولين عن واقعهم وأصبح المؤسس هو المسيطر الأوحد على كل جوانب إدارة الثروة دون مشاركة حقيقية للأبناء. ومع مرور السنين وعند بداية ضعف أو وفاة المؤسس تبدأ الخلافات والصراعات بين الأبناء لعدم وجود مرجعية للفصل في أي خلاف يقع بينهم، وتبدأ الثروة تضمحل بالتقسيم وتزول بعضها لعدم مقدرة وخبرة الأبناء في إدارتها. يجب على العوائل التجارية ترتيب بيوتها من الداخل والانتقال إلى العمل المؤسسي وإعادة الهيكلة لأعمالها مما يضمن البقاء والنجاح لكياناتها التجارية وعدم ضياع الثروة والاسم التجاري الذي بني خلال سنوات طويلة. المشكلة أن هناك مقاومة أو رفض من قبل العوائل التجارية نفسها في التغيير والانتقال من العمل الفردي الغير منظم إلى العمل المؤسسي (حوكمة الشركات) الذي ينظم ويحكم العلاقات في الكيان التجاري للعائلة ويضمن استمراريتها. ولعل من أبرز أسباب رفض التغيير وانهيار العوائل التجارية ما يلي:
- عدم رغبة أو عدم إيمان المؤسس في التغيير أو الخوف من أن يؤدي التغيير إلى نقص أو زوال صلاحياته.
- عدم وضع إستراتيجيات وحلول واضحة للعمل التجاري من قبل المؤسس وتركها للأبناء في المستقبل بعد وفاته.
- عدم وجود أهداف واضحة للعمل التجاري يسعى جميع أفراد العائلة التجارية لتحقيقه.
- عدم ثقة المؤسس بأبنائه وكفائتهم في إدارة العمل التجاري ومن ثم عدم إشراكهم في إدارة العمل التجاري.
- عدم وضع مبدأ المحاسبة لجميع أفراد العائلة بالعمل التجاري والذي يحد من التجاوزات.
- المركزية في اتخاذ القرار من قبل المؤسس أو أحد أفراد العائلة وعدم إشراك بقية الأبناء في القرارات الإستراتيجية.
- الرغبة الضعيفة من قبل بعض الأبناء في العمل العائلي لأنهم تعودوا على الترف والاتكالية وافتقادهم القدرة الإدارية في العمل.
- التداخل وعدم الفصل بين الملكية في العمل التجاري وإدارة العمل بين أفراد العائلة.
- تضارب المصالح بين أفراد العائلة في العمل التجاري وتغليب المصلحة الشخصية على مصلحة العائلة.
- عدم الاستعانة بأهل الخبرة من خارج العائلة في إدارة العمل التجاري والاعتقاد بأن الإدارة يجب أن تكون من داخل العائلة.
- دخول أفراد من خارج العائلة في ملكية العمل التجاري مثل الأنساب.
- عدم وجود هيكل إداري وتنظيم محاسبي ومالي واضح ينظم العمل التجاري.
- عدم وجود الشفافية في المعلومات عن العمل التجاري بين الجيل المؤسس وأفراد العائلة واعتبار هذه المعلومات سرية لا يجب الإطلاع عليها.
- عدم العمل على حل الخلافات بين أفراد العائلة ودياً واللجوء إلى القضاء مما يسبب في قطع الروابط الأسرية بين أفراد العائلة.
- إهمال المؤسس في إعداد وتدريب الجيل الثاني من الأبناء يخلفه في إدارة العمل التجاري وتطويره وانتقال السلطة له.
- عدم إدخال المؤسس الأبناء في ملكية العمل التجاري مما يؤدي إلى عدم ارتباطهم عاطفياً به وعدم المحافظة على اسم العائلة التجاري مما يؤدي إلى سهولة تنازلهم وبيعهم للكيان التجاري العائلي بعد رحيل المؤسس.
- الصراع على السلطة بين الجيل الثاني من الأبناء عند مرض المؤسس أو وفاته.
- هيكلة إدارة العمل التجاري بنفس طريقة هيكلة الأسرة بغض النظر عن الأكفأ منهم في الإدارة، فالأكبر أو الأقرب عاطفياً إلى المؤسس هو المسيطر بغض النظر عن كفاءته إدارياً.
- عدم وجود ميثاق للعائلة ينظم العلاقات بين أفراد العائلة ويحد من الخلافات بينهم.
- استغلال بعض أفراد العائلة للفوضى الإدارية في العمل العائلي لمصلحتهم الشخصية ومقاومتهم للتغيير.
- الاعتقاد الخاطئ من المؤسس بعدم الحاجة إلى التغيير والتطوير فما نجح في الماضي سيستمر بالنجاح في المستقبل دون الأخذ بالاعتبار المتغيرات السريعة حولهم.
نظراً لأهمية العوائل التجارية في الاقتصاد الوطني يجب العمل على المحافظة عليها وتطويرها وإتباع كل السبل الكفيلة في استمرارها ونجاحها من قبل الجهات الحكومية ذات العلاقة والعمل على تحويلها من العمل الفردي إلى حوكمة الشركات. هناك عوائل تجارية عريقة بنت أسماء تجارية مرموقة على مر سنين طويلة ولكن بعد وفاة المؤسس أو مرضه دب فيها الخلاف بين الشركاء فهوت وانهارت في زمن قصير لأنها لم تنتقل من العمل الفردي إلى العمل المؤسسي وحوكمة الشركات وأصبحت قصص خلافاتها تتداول في الصحف وتنتقل بين المحاكم. وعلى الجانب الآخر هناك أمثلة مشرفة لعوائل تجارية سعودية أدركت أن السبيل لبقاء ونجاح كياناتها التجارية وترابط أبنائها والحد من الخلافات بينهم هو التحول إلى العمل المؤسسي وإعادة هيكلة أعمالها بالتحول إلى شركات مساهمة مغلقة أو عامة، ومن هذه العوائل التجارية على سبيل المثال (الراجحي، العليان، المهيدب، الجفالي، بن زقر، الحكير، الزامل، عبداللطيف جميل، بن لادن). تحول الكيانات العائلية من العمل الفردي إلى شركات مساهمة مغلقة أو عامة هو الحل الأنسب حيث إن تحويل الملكية من نظام الحصة إلى نظام السهم يمكن السهم من الانتقال بين الملاك بشكل نظامي مما يضمن أن الشركة لن تتوقف في حال عجز أو وفاة أحد أفراد العائلة، ويوفر أيضاً الانتقال للعمل المؤسسي وحوكمة الشركات الاستمرار والاستقرار والتطوير والنجاح، وتطبيق المعايير المحاسبية والمالية الدقيقة للشركات المساهمة، واستقلالية الملكية عن الإدارة، وزيادة الرقابة على أعمالها، وإدخال دماء جديدة من داخل وخارج العائلة في إدارة الشركة مما يضمن لها التطور والنجاح ومواجهة الصعاب والحد من الخلافات التي قد تهدد استمراريتها لأجيال متعاقبة. وأخيراً، يجب أن تعي العوائل التجارية أنها أمام خيارين إما تطبيق حوكمة الشركات على أعمالها والتحول لشركات مساهمة أم مواجهة الزوال.
- د. فواز بن سعيد