كان الموعد مع مقهى صغير يقبع في وسط البلدة القديمة في إحدى ضواحي العاصمة، كان النهار في آخره، والغروب يستعد للرحيل، ليمنح للمساء مكاناً على أكتاف الغسق. في الطريق مع سيارة الأجرة كان المشهد أقرب إلى سيمفونية رائعة، تعزف الجمال أينما شاح البصر، كلما اقتربنا من المكان الذي نتجه إليه وسط المدينة ضاقت الشوارع وازدحمت وزاد عدد الناس وتنوعهم وقلّت الفراغات العمرانية، كانت لغة الصمت حاضرة بيني وبين سائق الأجرة الذي ربما لم يعد يكترث بمن يرافقه لإعداد البشر الكبيرة التي يقلها طوال الوقت لسنوات خلت، رغم ذلك كنت أشعر بأننا نتحدث أنا وهو لغة واحدة وهي لغة إدراك المكان.كنت أشاهد ذلك في ملامح عينيه اللتين تحدقان بعيداً، متجاهلاً كل التفاصيل المحيطة بنا، والتي حتماً بات يحفظها عن ظهر قلب.
وصلنا إلى وسط المدينة وكان يتوجب علي أن أواصل المسير إلى المقهى الصغير مشياً على الأقدام حيث تحظر القوانين دخول المركبات للحرم العمراني المحيط بما ينسجم مع وظيفته المسائية كمكان يمارس فيه الناس حياتهم نهاية كل يوم. كانت المقاهي منتشرة على قارعة الطريق وبين أرجائه، ورائحة القهوة تسيطر على أبجديات ذلك المساء بكل ما يحمله من سرمدية طاغية، ورومانسية قادرة على استعادة الذكريات الغارقة في أعماق مرتاديه، الجميع يتوافدون على المكان، قادمون من كل الأحياء الشوارع والأزقة، تشعر بأنه ينتظرهم، وهم يحاولون اللحاق على ما تبقى لهم منه ليحتضن كل مشاعرهم وهمومهم، بعد ساعات قضوها في أماكن عملهم ليهدأ الركض اللاهث الذي بداخل أرواحهم.
توقفت أمام ذلك المقهى الصغير القابع في زاوية مظلمة، بالكاد تقرأ لوحته الخشبية الصغيرة على انعكاس ذلك الفانوس المتشبث بكل جدران التاريخ الذي تحمله، لم يكن المقهى سوى غرفة صغيرة لتحضير القهوة حيث تنتشر طاولات الجلوس على الرصيف المتاخم له، أخذت مكاني على طاولة في الطرف المطل على ساحة قديمة كانت اسطبلا للخيول. بدا المكان في الوهلة الأولى وكأنه ملاذ يحتوي كل الباحثين عن الحياة وعاشقي الفن والأدب وحكايات الجمال، بدأت أتعرف عليه وأعيش تفاصيله عن قرب، خيل لي بأني في جزيرة بعيدة لا يسكنها سوى ذائقي الليل وأصدقاء القمر، طقس ربيعي يوحي بأني في أروقة فصل خامس لم يعيشه أحد سواي.
بالجوار، أشخاص محليون وآخرون غرباء. في طاولة يجلس فتى وفتاة يرسمان مستقبل حياتهما الجديدة، وخلفهما طاولة أخرى لرجل مسن وزوجته العجوز يخططان لنهاية سعيدة، وفي طاولة بعيدة يجلس رجل وحيد ينظر للكرسي الذي أمامه لربما ينتظر من هو قادم أو يستذكر راحلاً ترك فراغاً. على الرصيف بائع لأشجار الليل لأناس قد يستظلون بها يوماً من ضوء القمر، أماكن أخرى تعج بعرابي الادب والفنون بأنواعها. رغم اختلاف مقاصدهم وتنوعها إلا إنهم اتفقوا على المجيء هنا للإمساك بلحظات هاربة من حياتهم ربما فقدوها يوماً في هذا المكان وجاءوا لاستعادتها. قطرات المطر بدأت تداعب ضوء الشمعة الصغيرة على طاولتي وكأنها تلفت انتباهي للنادل الذي يقف بجانبي، ينتظر أن أمنحه موافقتي على إحضار فنجان القهوة السوداء وفق تقاليد وأعراف ذلك المقهى العريق.
لحظات الانتظار الطويلة جعلتني أكثر إحساساً بالمكان، أصبحت أكثر قناعة بأن وسط المدينة التاريخي ليس كتلا مبنية ولا فراغات مفتوحة بل هو عبارة عن ملتقى لمتذوقي الحياة. مثل هذه الأماكن يجب أن نحافظ على خصائصها لتبقى هادئة وجاذبة، فقد باتت مثل أعشاش الطيور التي تهاجر وتعود اليها عندما تشعر بالحنين، لنتركها متاحة لعشاق اللحظات الجميلة والمفعمة بالحب والتفاؤل والذكريات التي لا تغيب. يقال: «من آداب الاستماع إلى أُنثى، أن تُنصت إلى عينيها أولاً». كذلك هي المدن، لها وجه آخر أكثر إشراقاً، يكمن في أواسطها التاريخية، فقط علينا أن ننصت لها لكي نفهمها.
- المهندس بدر بن ناصر الحمدان