أ.د.إبراهيم بن ناصر الحمود
من أفضل النعم على العباد نعمة الإسلام والأمن في الأوطان، ومن فضل الله علينا أن أنزل إلينا أفضل كتبه وأرسل إلينا خير رسله رحمة بالعباد ?ومَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ?، ومن حكمة الله سبحانه وتعالى أن جعل أفعال العباد بين الخير والشر ?وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً?، {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى}، فتفاوتت طبائع البشر، فمنهم من ينزع إلى الخير والحق، ومنهم من ينزع إلى الشر والباطل. وقد بيَّن سبحانه أنه بعدله وحكمته، لا يساوي في حُكمه يوم القيامة بين مَنْ كان مُؤمنًا بالله متبعًا لرسله، بمن كان خارجاً عن طاعة ربه مكذِّبًا لرُسُله {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ}، وقال سبحانه {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ}.
ولحكمته سبحانه جاءت النصوص الكثيرة بالتحذير من الباطل والشر، والترغيب في الحق والخير، وبيان ما يترتب على الباطل والشر من مفاسد في الدنيا وعقوبة في الآخرة، وما يترتب على الحق والخير من مصالح في الدنيا ونعيم في الآخرة. ولما كان هذا الوازع لا يكفي في إصلاح بعض النفوس الحاقدة، الموغلة في الإفساد في الأرض، وكبح جماحها، فرض رب العالمين برحمته وحكمته عقوبات دنيوية، وحدوداً شرعية، بحسب الجرائم لتردع المعتدي، وتصلح الفاسد، وتقيم المعوج، وتحقق العدل، وتنشر الأمن والاستقرار في الأرض، فهي من مظاهر رحمة الله تَعَالَى ولطفه بعباده.
أخرج ابن ماجة في سننه وابن حِبَّان في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم (حَدٌّ يُعْمَلُ بِهِ فِي الأرْضِ خَيْرٌ لأَهْلِ الأرْضِ مِنْ أَنْ يُمْطَرُوا أَرْبَعِينَ صَبَاحًا)، إذ هي عامل من أكبر العوامل للحفاظ على الضروريات الخمس: (الدين والنفس والعقل والعِرض والمال)، والتي متى حُفظت استقر المجتمع، وأمِنَ واطمأن. وهذا المقصد مطلب لجميع البشر، يسعون إلى الظفر به وتحصيله مهما كلفهم من ثمن، وهذا يتحقق في تنفيذ القصاص والحدود والتعزيرات.
والمجتمع المسلم يقيم حياتَه كلَّها على منهج الله وشريعته؛ وينظم شؤونه وارتباطاته وعلاقاته على أسس ذلك المنهج وعلى أحكام هذه الشريعة.. ومن ثم يكفل لكل فرد - كما يكفل للجماعة - كل عناصر العدالة والاستقرار والطمأنينة، ويكفَّ عنه كل عوامل الاستفزاز والإثارة، وكلَّ عوامل الكبت والقمع، وكلَّ عوامل الظلم والاعتداء.
وفي مثل هذا المجتمع الفاضل العادل المتوازن المتكافل، يصبح الاعتداء على النفس والحياة، أو على النظام العام، أو على الملكية الفردية أو الجماعية جريمة منكرة.
وهذا يفسر التشدد ضد الجريمة والمجرمين، والضرب بيد من حديد على كل من تسول له نفسه المساس بهذه الضروريات الخمس، أو محاولة الإخلال بالأمن ونشر الفوضى في البلاد، أو الخروج عن الجماعة وشق عصا الطاعة بعد تحكيم شرع الله فيهم. فلا تستقيم الحياة إلا بإمامة عادلة، ولا إمامة إلا بسمع وطاعة. ولا أمن وأمان إلا بحكم شريعة الإسلام، فأمن الوطن من ثوابت الإيمان وواجب على كل إنسان، فوطن لا نحميه لا نستحق العيش فيه.
من أجل ذلك جعل الله سبحانه وتعالى قتل النفس الواحدة كبيرة تعدل قتل الناس جميعاً؛ وجعل العمل على إحياء نفس واحدة يعدل إنقاذ الناس جميعاً، قال تعالى {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا}...
وبهذا لا يدع الشرع الحكيم عذراً للنفس السوية أن تميل إلى الشر وإلى الاعتداء، فالذي يهدد أمن المجتمع المسلم - بعد ذلك كله - هو عنصر فاسد يجب استئصاله وبتره بعيداً عن إي اعتبار، فالمجتمع المسلم لا تأخذه في الله لومة لائم.
وفي صحيح مسلم عن عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم (لَعَنَ اللهُ مَنْ آوَى مُحْدِثًا)، والمحدث هو الذي أحدث بالإسلام حدثاً يستوجب إقامة الحد عليه، كالمرتد الذي يجب قتله بالردة، والقاتل الذي وجب عليه حد قصاص، والسارق الذي وجب عليه حد السرقة، والمحارب الذي وجب عليه حد الحرابة، فيجب إقامة الحد على أصحاب هذه الجرائم، ولا يجوز لأحد أن يعترض على حكم الله، بل يجب الفرح بإقامة الحدود لأنها تطهير للأرض، ورحمة من الله للعباد، وسعادة للبشر، فالله جل وعلا يقول: {وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}، فبإقامة الحدود تحصل مصلحة المجتمع، وبإقامتها يستتب الأمن في البلاد حضراً وسفراً، هذا هو العدل في الإسلام وهذه مقاصده الشرعية.
وقد أمر الله عباده باجتماع الكلمة وعدم الفرقة، فقال سبحانه {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا}. وجاء النص النبوي الكريم مبيناً الحكم الشرعي الذي يقام على من يريد شق الصف وتفريق الكلمة، فقد روى مسلم في صحيحه عن عَرْفَجَةَ رضي الله عنه قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ (مَنْ أَتَاكُمْ وَأَمْرُكُمْ جَمِيعٌ عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ يُرِيدُ أَنْ يَشُقَّ عَصَاكُمْ أَوْ يُفَرِّقَ جَمَاعَتَكُمْ فَاقْتُلُوهُ).
فإقامة الحدود فضل من الله عظيم لا يَقْدِرُ قَدْرَها إلا العاقلون العالمون.
ومن أجل استتباب الأمن في المجتمعات جاءت الشريعة الغراء بالعقوبات الصارمة، وحفظت للأمة في قضاياها ما يتعلق بالحق العام والحق الخاص. بل إن من المقرر شرعاً قطع دابر الفتنة، وقطع الوسائل الموصلة إليها، وما ذاك إلا من باب سد الذريعة المفضية إلى التهاون بالحدود والتعزيرات، أو التقليل من شأنها أو تعطيل أحكامها. وهو ما جعل بعض الدول تعيش في حال من الخوف والهلع وفشو المنكرات والاعتداء على الحرمات والممتلكات بسبب إحلال قوانين البشر بدل الشرع المطهر.
ومن شواهد السنة المطهرة في قمع المجرمين وإنزال أشد العقوبة بهم ما صح أن أناساً مِنْ عُرَيْنَةَ قدموا إلى المدينة يريدون أن يتعلموا من الرسول صلى الله عليه وسلم فأصابتهم الحمى فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يلحقوا بإبل الصدقة فيشربوا من أبوالها وألبانها، فلما شربوا وشفاهم الله طمعوا في الإبل فمثلوا بالراعي وسملوا عينيه وتركوه حتى مات واستاقوا الإبل، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم في طلبهم فجيء بهم بعد ارتفاع النهار فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف وسملت أعينهم وأنزل الله جلَّ وعلا قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عظيم}. هذا حكم الله في قمع المجرمين {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ}.
لقد شرع الله سبحانه وتعالى الحدود لحكم عظيمة ومنافع جمة، ينعم بجناها المجتمع الإنساني، ويتفيؤ ظلالها، وتعود عليه بالأمن والاستقرار والراحة والهناء والاطمئنان، فيعيش المرء آمناً في سربه ينعم بالأمن والأمان على نفسه وأهله، وأمواله محفوظة فلا تصل إليها يد خائن مجرم ولا تمتد إليها يد سارق جشع اتخذ النهب حرفة، وعقله باق على جبلَّته التي ميزه الله بها، ودينه ثابت مستقيم قوي صلب لا تلعب به الأهواء ولا تزعزعه العواطف الهوجاء والأفكار المنحرفة، وعرضه مصون مفعم بالعفة والكرامة، كل ذلك بفضل الله ثم بفضل تحكيم شرعه.
فما دامت هذه فوائد تطبيق الحدود، فهنيئاً للذين يطبقون حدود الله في الأرض، حياة مستقرة سعيدة في الدنيا، وأجر ومغفرة من الله في الآخرة. وبالمقابل، فما من أمة ضيعت أمر الله وحدوده إلا شاع فيها الذعر والفزع والاضطراب، وقلَّ خيرها، وذهبت بركتها، وضاقت أرزاق أهلها، وكثرت فيها الأزمات والقلاقل. ومصداق هذا من كتاب الله قوله تعالى: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا}، وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ}.
شرع الله جلَّ وعلا الحدود لمكافحة الجريمة والرذيلة وصيانة المجتمع من الفساد والمعاصي وحماية مصالح أساسية أجمعت الشرائع السماوية على المحافظة عليها. فبتطبيق الحدود والقصاص والتعازير، يزجر كل من تسول له نفسه الإخلال بأمن البلاد، ويترتب على هذا التطهير الأمن والأمان والطمأنينة بين أفراد المجتمع الإسلامي، وتتحقق العدالة والمساواة على وجه الأرض، ويرتفع الظلم عن العباد. وبتطبيق الحدود الشرعية على المجرمين بما يتناسب مع إجرامهم تتحقق العدالة والمساواة بين المسلمين جميعاً بغض النظر عن لونهم وجنسهم، وحسبهم ومذهبهم، وغناهم وفقرهم، فالناس في حكم الله سواء.... ويؤكد حقيقة المساواة والعدالة في تطبيق الحدود ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال - عندما أراد رجل من الصحابة أن يشفع للمرأة المخزومية السارقة (أتشفع في حد من حدود الله؟ وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها). وفي عدم تطبيق ذلك انتهاك لحدود الله تعالى، وهذا ظلم عظيم، قال تعالى {تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}، وقال تعالى {وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ}.
وفي تطبيق الحدود في الأرض كبت للفتنة وقلعها من جذورها، فالفتنة أشد من القتل، وإقامة حكم الله فرض لا مساومة عليه، وهذه البلاد المباركة منذ تأسيسها وهي تستمد أحكامها من الكتاب والسنة، فهما العمل الذي تعاهد عليه قادتها دون هوادة لإيمانهم بأن تطبيق شرع الله في البلاد هو عنوان أمنها واستقرارها، امتثالاً للأمر الله ورسوله، ولا يزال العمل بشرع الله قائماً - والحمد لله - في هذه البلاد وسيظل بفضل الله كذلك رغم أنوف الحاقدين ودعاوى المغرضين، ومهما نعق أعداء الإسلام ومهما قالوا وفعلوا فلن يغير ذلك شيئاً من هذا المنهج الرباني الذي هو مصدر عزنا وفخرنا ودستور حياتنا، {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}.