قاسم حول
ظاهرة رحيل الأدباء والمثقفين والمفكرين العراقيين عن عمر مبكر لم تعد من المفاجآت!
فكل يوم نقرأ في مواقع الإنترنت والمدوّنات والصحف عن رحيل شاعر، مسرحي، سينمائي، عالم، مفكر وفي أوساط النخب الثقافية والفكرية في العراق..
يرحلون عن هذه الدنيا وهم حتى أحياناً لم تتح لهم الفرصة لإصدار مجموعة شعرية أو كتابة مسرحية أو إنتاج فيلم سينمائي حتى فيلم تجريبي بدقيقة واحدة!
وهذه الظاهرة، ظاهرة الرحيل المبكر، باتت للأسف سمة ثقافية عراقية وذلك بسبب انغلاق الأفق أمام رؤيتهم وشعورهم باللاجدوى ومع عيشهم الاجتماعي الصعب والهروب من الواقع نحو الخدر الليلي وأحيانا النهاري وعدم قدرتهم على المغامرة والهروب إلى ما يسمى بلدان المنفى وعدم توفر عمل والمواجهة غير المتكافئة مع أعدائهم الاجتماعيين والثقافيين فإنهم وبسبب الخدر الليلي والنهاري يصابون بتشمع الكبد وهي عملية انتحار بإقساط! كما أن الحياة نفسها عندما لا تجد في الفرد قيمة للبقاء وسبباً للحياة تطلب منه الانسحاب باتفاق مسبق!
«خضير ميري» كات ومسرحي وموهبة غير عادية في الوسط الثقافي العراقي. عندما شعر إبان الحقبة الدكتاتورية بأنه مطلوب للذهاب إلى جبهة الحرب ادعى الجنون ونجح بامتياز بتمثيل دور المجنون وهو لم يكن مجنوناً على الإطلاق، وحتى ينكلوا به فقد أدخلوه مستشفى المجانين، وعاش هناك عدة سنوات ومع الفوضى التي أحدثتها الانتفاضة الشعبية عام 1992 بعد غزو النظام العراقي للكويت فتحت السجون وفتحت أبواب مستشفيات المجانين فهرب خضير ميري واستطاع الوصول إلى القاهرة وهناك عاش سوياً وكتب عن تجربته في مستشفى المجانين.
التقيته عام 2009 وأنا أخرج فيلم «المغني» وحضر عرض الفيلم في بغداد وكتب عنه وخلال تعرفي عليه تعرفت على ممثل من طراز خاص، ممثل يتمتع بالظرافة فهو يتحدث كما يتحدث على المسرح ولكن على أرض الواقع .. نجاحه في تمثيل دور المجنون ليس أمام السلطة فحسب بل أن يقنع المجانين بأنه واحد منهم والصبر في العيش معهم لسنوات ما هي إلا قدرة خارقة لمثقف مرهف وحساس. أكيد كان يعتقد بان مستشفى المجانين أفضل بكثير من جبهة الحرب!
بعد سقوط نظام الدكتاتور عاد إلى العراق من مصر وعمل فترة من الوقت في الصحف، لكن الصحف العراقية لم تتمكن من إعتمادة كمحرر، إنما الكتابة بالقطعة وأحيانا لا تدفع للكتاب حتى قيمة القطعة! فرفض الاستمرار باللعبة مثل ما رفض لعبة الحرب وبدلا من أن يذهب إلى جبهة الحرب ذهب إلى مستشفى المجانين وبعد انتهاء الحرب وانتهاء النظام رفض جبهة الصحافة وذهب إلى جبهة الانكفاء في بيته وهناك صار يرى الحياة من منظور القهر بعد أن شعر بانغلاق الأفق أمام ناظريه، ليس هو وحده إنما ضمن مجموعة من المبدعين المتمردين على واقعهم الصعب فاختاروا طريق الانسحاب من الحياة بصمت!
قليلون في عالمنا العربي يعرفون «خضير ميري» كان شابا وديعا كاتبا وممثلا ومفكراً.. رحل بصمت.. ربما كتب عنه بعض أصدقائه قصيدة شعر أو خاطرة في صحيفة لا أحد يقرؤها.
هي ظاهرة الموت المبكر لمبدعين لا ندري لو كانوا عاشوا أو يعيشون في ظروف طبيعية لأنتجوا ربما أعمالا مدهشة.. ربما كتبوا الروايات العظيمة وأنتجوا الأفلام الساحرة الجمال وكتبوا أجمل القصائد!
الم يقل المبدعون.. إن أجمل القصائد هي التي لم تكتب بعد! وأن أجمل الروايات هي التي لم تكتب بعد!
وأن أجمل الأفلام هي التي لم تنتج بعد! ولكن.. من يكتب القصائد الجميلة ومن يكتب الروايات الحلوة ومن ينتج الأفلام ساحرة الجمال حين يرحل منتجوها.. مبكراً؟!