د. عبدالرحمن بن عثمان المرشد ">
ارتبط القتال قديماً بالفروسية، فكان يقال: فارس مقاتل صنديد. وكانت الجزيرة العربية في أول ظهور المجتمعات السكانية فيها تعتمد على الحرب والمغالبة، وفيها نظمت القصائد ونشرت المعلقات، بل قالوا في الميراث: (لا يعطى إلا من قاتل، وحاز الغنيمة). وقبل نزول الوحي كانت العرب على الرغم من جاهليتهم أصحاب قيم فاضلة ومبادئ حميدة، فبرغم تجدد الحروب بينهم لفترات تصل لنصف قرن، شأنهم شأن غالبية المجتمعات, سواء المغولية في آسيا أو الجرمانية في أوروبا ومثلهم الزنوج في أفريقيا، فإن العرب قبل الإسلام كانت لهم حمية على أعراضهم، وأبرز ما سطر لهم تاريخ الحروب معركة ذي قار, والتي أوجزها الأعشى بقوله:
إن الأعز أبانا كان قال لنا
أوصيكم بثلاث إنني تلف
الضيف أوصيكم بالضيف، إن له حقاً
عليّ، فأعطيه وأعترف
والجار أوصيكم بالجار، إن له
يوماً من الدهر يثنيه، فينصرف
وقاتلوا القوم إن القتل مكرمة
إذا تلوى بكف المعصم العرف
وبهجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى يثرب وتأسيس نواة الدولة الإسلامية، كان لابد لهذه الدولة الناشئة من درع يحميها، فكان أن رتب النبي صلى الله عليه وسلم أمر الجيش المسلم من فرسان وراجلة ورماة وسرايا، وظهر في الجزيرة العربية مقاتل يتسلح بالعقيدة الإسلامية، فاكتملت بها عراقة الأصل وشرف المبدأ.
ومن المدينة المنورة قبل ما يزيد عن خمسة عشر قرناً انطلقت جحافل جيوش المسلمين شرقاً وغرباً وامتدت شمالاً وجنوباً لنشر رسالة الإسلام، والتي كان مقاتل الجزيرة العربية هو أساسها ونواتها. وبرغم سقوط ممالك وقيام أخرى على أنقاضها، ظل جيش الدولة الإسلامية هو أبرز الجيوش، لتسلحه بالعقيدة الإسلامية وصيانته للمبادئ الإنسانية التي قررها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (..لاتغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا صبياً ولا امرأة ولا شيخا فانيا ولا مريضا ولا راهبا ولا تقطعوا مثمرا ولا تخربوا عامرا ولا تعقروا بهيمة إلا لمنفعة ولا تغرقوا نخلا ولا تحرقوه) فسمع - بضم السين - الأذان في الأندلس وبلاد السند والصين وأطراف أوروبا.
ونعود للجزيرة العربية لنستعرض سيرة مقاتلها قبل عقدين وقرن من الزمن القريب في تسميته الجديدة المقاتل السعودي.
فباسترداد البطل ابن سعود الرياض، كان ابن الجزيرة العربية على موعد مع رحلة التوحيد، وعودة الدولة السعودية في نسختها الثالثة، لتكون فيما بعد الوريث الشرعي للخلافة الإسلامية بعد إلغاء البرلمان التركي لها، وتخلي الدول المسلمة عن تطبيق الشريعة الإسلامية. خاض فيها المقاتل السعودي بأسلحة بدائية مواجهات مصيرية، أبرزها مع المدافع العثمانية التي سلم فيها الخليفة العثماني بتسيد الملك عبدالعزيز على إقليمي نجد والأحساء, وبرغم نشوة الانتصار فإن المقاتل السعودي كان يحفظ لغريمه مكانته وهيبته, وخير مثال على هذا قول الملك عبدالعزيز إبان تسميته بوالي نجد: (ما ننزع من الجندي العثماني سلاحه) لما أذن للحامية العسكرية بالخروج من الأحساء، فبادره الخليفة بـ(فرمان) منحه لقب عبدالعزيز باشا, مرفقاً به نيشان الباشوية, وفق بروتوكولات الباب العالي وقتها. وفي الحجاز، لم يتهيب المقاتل السعودي من الطائرات الانجليزية في معركة أبرق الرغامة، والتي وصفها الشاعر بقوله:
جانا مع الجو طيارة
يرمي ديناميت راعيها
سواقها لعنبوا داره
نفسه على الموت مهديها
أما في اليمن، فكان المقاتل السعودي نداً لأساطيل الطليان القادمة من الصومال، بشعار هبت هبوب الجنة وينك يا طلابها.
وفي شمال الجزيرة, لم يجد الاستعمار في العراق والشام مفراً من الرضوخ للقوة الجديدة, فعقدت اتفاقيات ترسيم الحدود وحسن الجوار.
ابن الجزيرة العربية أثبت في هذا القرن أصالة المعدن ورسوخ المبدأ، فشارك بكفاءة في حرب 48 في فلسطين وحربي 56 و73 مع الأشقاء في مصر. وبرغم أن مطلع القرن الهجري الخامس عشر شهد طفرة اقتصادية وحياة مرفهة، إلا أن المواطن السعودي لم يتخل عن روحه القتالية، فكان خير مجاهد في أفغانستان ضد الاتحاد السوفييتي بين عامي 1980م و1988م، وقاد العالم عام 1990م في حرب تحرير الكويت والتي مثلت اختباراً واقعياً لمهارات المقاتل السعودي، وفي عام 1996م بدأ المقاتل السعودي رحلة الحرب على الإرهاب، والتي كشف فيها عن قدراته الاستخباراتية العالية، لما أحبط مئات الجرائم الإرهابية قبل تنفيذها, ناهيك عن ضبط الأسلحة والمتفجرات دقيقة الصنع، وفي 2009م تصدى المقاتل السعودي للعدوان الحوثي حتى دحرهم من الأراضي السعودية.
ولما توجه الحوثي إلى صنعاء قبل بضعة أشهر معلنا الانقلاب على الشرعية لبى المقاتل السعودي أمر سلمان الحزم، فحلقت طائرات التحالف العربي فوق سماء اليمن الشقيق، استجابة لطلب رئيسها الشرعي.
أمام هذا التاريخ العريق، الحافل بالانتصارات المجسد لأروع البطولات، بات العالم يدرك أن الروح القتالية لابن الجزيرة العربية المسمى في العصر الحديث بالمقاتل السعودي، هي كاريزما ربانية، أصلها متجذر في أرض العرب، وسلاحها عقيدة راسخة.
- عضو هيئة التحقيق والادعاء العام