د. محمد عبدالله الخازم
بغض النظر عن التخصص أحسب أنني قارئ متذوق، أفهم معنى الرواية الجيدة من تلك المتواضعة. ومثل غيري تجذبني الأعمال التي يخدمها الإعلام وتخدمها الجوائز العربية، وفي مقدمتها الشهيرة بـ»البوكر». أحاول البحث في التميز الذي يمنح الفوز لرواية دون الأخرى أو يدخلها في القوائم الطويلة والقصيرة. أعزي نفسي حين لا يقنعني قرار لجان التحكيم، بأن النقاد الكبار يرون ما لا نراه من أسرار الرواية. وحتى عند سماع مشاكل اللجان الداخلية وحروبهم الإعلامية، أقول ربما ذلك جزء من اللعبة الإعلامية والمماحكات الثقافية.
بعد قرائتي لرواية الكاتب ناصر الظفيري «كاليسكا: القيوط يطارد غزالاً» تأكدت شكوكي بأن الجوائز العربية محكومة بالمجاملات أو المناطقية/ الأقليمية وبنفوذ الناشرين والممولين وغير ذلك من المعايير غير الفنية. لن أقول إن كاليسكا هي الأولى فلست مؤهلاً لهذا الحكم، لكن قراءتي لروايات فازت بالبوكر أو دخلت قوائمها، يجعل عدم دخول كاليسكا قوائم البوكر وكاتارا وغيرها من الجوائز أمر مخيب للآمال. بل يقودني للتشكيك علناً في مصداقية جوائز الرواية العربية واعتبارها غير قادرة على الارتقاء فوق مخاوف القائمين عليها ومجاملاتهم وإنحيازهم غير المهني. يبدو أنهم يهملون العمل الإبداعي لمجرد عدم توافقه مع الفكر السياسي أو التمويلي الذي يتقاطع مع مصالحهم.
هذا المقال ليس لتحليل ونقد رواية كاليسكا فذلك سيكون له مقام آخر. لكن كلمات بسيطة للقاريء غير المتخصص عنها؛ هي رواية تشدك قراءتها وكأنك تستمتع بعمل فني رائع الإخراج والحبكة. بل إن تلك الرواية تصلح بانوراما سينمائية ولو كتبت في بيئة متقدمة فنياً وثقافياً لرأيناها عملاً يتجاوز الحدود العربية. متعة فنية أخذتنا في رحلة من بيئة الجهراء إلى شمال أمريكا بسلاسة أحداث متميزة. مقاربة ذكية بين قضية إنسانية عربية -البدون- يسكت الجميع عن الإلتفات لمعاناتها وقضية سكان كندا الأصليين أو ما يسمون -بشكل خاطيء- الهنود الحمر.
هذه رواية تستحق أن تترجم لأنها محلية بنكهة عالمية وأراهن على أنها سترى النور بلغة ثانية قريباً. هي الثانية ضمن ثلاثية الجهراء بعد رواية الصهد. باحترافية عالية لم ينزلق المؤلف إلى وجع الغربة وألم التهميش الذي يعانيه أبطال العمل «البدون» فيتحول إلى واعظ أو منظر سياسي وإنما كتب يقص حكايات أبطاله وفي مقدمتهم عواد الذي حمل عوده وقضيته من الجهراء إلى سوريا ثم مونتريال قبل أن يستقر به المقام في أوتاوا. حبكة فنية ممتعة حتى ولو لم يلتفت القارئ أو يدرك محورها و إسقاطاتها على معاناة فئة يتم تهميشها عمداً رغم كل ما تقدمه من ولاءات لأوطانها. تلك الأوطان التي أحبوها رغم قسوتها تجاههم، أو كما قال بطل الرواية حينما أجاب السجان عن إعاقته بالقول «وطني هو إعاقتي الأبدية الوحيدة التي لن أشفى منها».
المثقف الحق، والجوائز الحقيقية تتلمس الأعمال التي تثير القضايا الإنسانية بحرفية عالية، وليست تصمت عنها أو تتجاوزها خشية إغضاب هذا أو ذاك. المثقف الصامت هنا لن يكون أفضل من سوط الرقيب الذي يخيفه الصوت الحر. أحد القيم الفنية العالية في كاليسكا هو عدم إنحراف خطها الدرامي عن مساره الذي خطط له لأجل خلق مشاهد إضافية اعتدناها في بعض الروايات العربية، ورغم ذلك ألصقوا بها تهمة لم يرها سواهم حين منعوها. أمر سيئ أن تمنع دخول عمل إبداعي والأسوأ عدم الجرأة بإعلان سبب المنع، وإنما الذهاب إلى محاولة تشويه عمل المثقف الذي يخيفك فكره. وهل يجرؤون القول بأن الرواية تحرج مواقفهم المعارضة للحقوق الإنسانية.
أشرت إلى أنني لا أكتب تحليلاً فنياً، لكن أشير باختصار إلى تميز وتمرس ناصر الظفيري في كتابة الرواية. أدهشني بأولى ثلاثية الجهراء -الصهد- وزادني قناعة بتميزه في كاليكسا. وأعتقد أنه أمر مقلق إهمال النقاد والمثقفين وعدم احتفائهم بهذا الكاتب المدهش وأعماله المتميزة.