عبد الاله بن سعود السعدون
هناك تناقض بين المرحلتين اللتين مر بهما العراق منذ نهاية السلطنة العثمانية حتى يومنا هذا، فالدولة الحديثة الأولى بدأت أولى مراحلها بعد الحرب العالمية الأولى حين احتلاله من قبل القوات البريطانية المستعمرة، والثانية بعد الغزو الأنكلو أمريكي الذي اجتاح العراق من جنوبه حتى أقصى شماله والمبرر الخادع في الغزوتين منحه الحرية وإزالة الظلم والتسلط وفرض النظام الأمثل من وجهة نظرهم.
لم يكن اختيار الشعب العراقي للمغفور له الملك فيصل الأول رغبة إنجليزية وبترشيح من قبل المسزز تراوود بيل كما تدعي المصادر الاستعمارية البريطانية بل كان اختيارا شعبياً متميزاً توافقت عليه كل فئات التنوع الشعبي في المجتمع العراقي معززاً بوثيقة العهد والدعوة التي رفعت لمقام الشريف الحسين بن علي شريف مكة وملك الحجاز موقعة من مشايخ الدين في الكاظمية والأعظمية والنجف وكربلاء وبختم المرجع الديني -آنذاك- الشيخ مهدي الخالصي ومؤيدة من قبل معظم شيوخ القبائل العربية والكردية العراقية ومعهم المثقفين والمفكرين الإعلاميين طالبين مباركته لاعتلاء نجله الأمير فيصل لعرش العراق.
وتميزت الوزارة العراقية الأولى برئاسة الشيخ عبدالرحمن النقيب بمشاركة كل نسيج المجتمع العراقي بعيداً عن الطائفية والعرقية فرئيس الوزراء الكيلاني النقيب ووزير المالية اليهودي العراقي الوطني حسقيل ساسون، وأمير اللواء جعفر العسكري وزيراً للدفاع، وحسن الباجه جي وزيراً للعدل وعبداللطيف باشا المنديل وزيراً للتجارة، والعلامة مصطفى الآلوسي وزيراً للأوقاف، ومحمد علي فاضل وزيراً للنافعة (البلديات)، والدكتور عزت كركوكلي وزيراً للصحة، والشيخ محمد مهدي بحرالعلوم وزيراً للمعارف، وخصصت وزارات دولة لرؤساء القبائل والأمراء ومنهم الأمير حمدي باشا بابان، والأمير ضاري باشا السعدون، والشيخ خيون العبيد رئيس عشائر بني أسد الذي كان معارضاً لترشيح الأمير فيصل لعرش العراق، وعبدالغني كبه، ومحمد الصهيود، وعبدالرحمن الحيدري.
أما الشئون الخارجية فكانت للمندوب السامي البريطاني سير بيرسي كوكس، وفي أولى جلساتها أعلنت اختيار الملك فيصل الأول لاعتلاء عرش العراق في يوليو- تموز 1921م، وخصص للوزير مرتباً شهرياً قدره ثلاثة آلاف روبية هندية تكفي -آنذاك- للإعاشة والسكن فقط... هكذا أسست الدولة العراقية الأولى عام 1921م مختارة الملكية نظاماً للحكم وتحمل مسئوليتها رجال حكم من النخبة الوطنية المخلصة لتبني مؤسسات الدولة بكل أمانة ونكران بجهود مشتركة شعارها المصلحة العامة أولاً والمحافظة على المال العام هذه المجموعة الرائدة التي رافقت الملك فيصل الأول من سوريا بعد نجاح الثورة العربية بقيادة أبناء الشريف الحسين الثلاثة عبدالله وعلي وفيصل -رحمهم الله- وحملوا وسام الشرف لتأسيس المملكة العراقية التي لو أكملت مسيرتها لبلغت أعلى مراتب النمو والأزدهار والسيادة والأمن مثيلة شقيقاتها المملكة العربية السعودية والمملكة الأردنية الهاشمية ومملكة البحرين، وفي عهد الملك فيصل الثاني تم توجيه الموارد المالية المتأتية من البترول نحو تنمية اقتصاد البلاد، وأنشئ مجلس الإعمار بميزانية متواضعة قدرت بخمسين مليون دينار ويعتبر من أولى مجالس التخطيط في الشرق الأدنى، وظهرت مشروعاته المتعددة، فعمّت المصانع الإنتاجية وبتوزيع إقليمي، وتطورت أساليب الزراعة، وتحوّلت للمكننة، ودخلت الحبوب العراقية بورصة هامبورج، وبدأ تصدير المنتجات الصناعية إلى الجوار الإقليمي وشيدت السدود والجسور على دجلة والفرات وأنشأت محطات توليد القوة الكهربائية وتصفية المياه في كل المدن وارتفعت نسبة تقييم التعليم دولياً وأسست شبكة من المستشفيات في كل العراق، وأصبح المصطاف العراقي مميزاً في لبنان وسوريا بمظاهر البذخ والغناء الوفير بسياراته الفارهة وسكن بالقصور والفنادق الفاخرة، وكان اقتصاده متنوع الموارد وليس ريعياً، فقد شكل الإيراد البترولي نسبة 3 في المائة من فقرات ميزانيته العمومية.
هكذا كان يعيش الشعب العراقي في العهد الملكي وبين الأمس واليوم بون شاسع فالعراق الذي أريد له أن يلبس الديمقراطية المستوردة والضيقة على جسمه السياسي بتسخير مجموعة من العملاء والأتباع الطائفيين لتسرق حكمه، وهي غير مؤهلة لذلك وتبيعه للغازي الأمريكي وشريكه مهندس الطائفية المذهبية في طهران مقابل خلق الفوضى والإرهاب في أنحاء البلاد، وترك هذه المجموعة من العملاء الغرباء لتجثم على صدر الشعب العراقي الصابر ليسرقوا ثرواته وباعوا سيادته وهجروا نصف شعبه، وأصبحوا لاجئين في دول العالم تحت ذل الغربة ومهجرين في وطنهم تحت غطاء الطائفية وتنفيذاً لإستراتيجية إيران في تصفية الشعب العراقي بحملات التغيير الديموغرافي الطائفي لتستولي على جغرافيته وإجبار أهل المدن والقرى من الأكثرية السنية بهجرة مساكنهم كما يحدث الآن في منطقة ديالى الحدودية مع إيران لهو شاهد حي لتنفيذ هذه الإستراتيجية التوسعية العدائية لكل ماهو عربي ووطني في العراق بأجبار السكان قسرياً لترك منازلهم وطرد من بقي حياً لذل التهجير في مخيمات ومعسكرات بدائية تذكرنا بتسلط الفاشية الهتلرية ومعسكرات الأسرى من الأوروبيين في الحرب العالمية الثانية، وسلمت مقاليد حكمه وسلطته لحزب طائفي تربى في حضن إيران ورضع من ثديها منذ تأسيسه في طهران.
وقد دمرت هذه السلطة اقتصاديات العراق وجعلها في تدهور مستمر فتراجعت الزراعة والصناعة ونشفت دجلة والفرات وعاش الاقتصاد دون خطة شاملة لتنميته بل تدهورت عملته إلى الهاوية فقد كان الدينار الملكي يصرف بأربعة دولارات والآن الدولار يشترى بألف ومائتي دينار بالعهد الطائفي، وبات ربع سكان العراق تحت مستوى الفقر وعجز الميزانية بحالة ارتفاع مستمر واقتربت من حالة الإفلاس، وأصبح الموظف النزيه عملةً نادرة بين جيوش الفاسدين في الوزارات والمؤسسات الحكومية، واقتصر القرار السياسي على التفويض المسبق من النظام الإيراني، وغيبت المواطنة والهوية العربية للعراق الجريح، وتحوّل إلى ساحة للصراع الإقليمي والدولي دون مسار واضح لسياسته الخارجية، وزرع حصان طرواده من المرتزقة بما يسمى داعش لتفكيك وحدته الجيوسياسيه واستنزاف رصيده المالي بحروب انتحارية هدفها سفك الدم والتخريب والإرهاب وتصفية الدولة الموحدة وتحويلها إلى كنتونات طائفية وعرقية تحت مسميات شيعة ستان وسنيستان وكردستان.
وهذا هو الهدف المشترك للثالوث الطامع الإسرائيلي الإيراني الأمريكي وأداتهم داعش الإرهابية العميلة.
ففي تموز الأبيض عام 1921م اعتلى الملك فيصل الأول عرش المملكة العراقية وفي تموز الأحمر الدامي 1958م اغتيل رمز العراق الشهيد فيصل الثاني ومعه اغتيل العراق وفارقه الأمن والخير والاستقرار، واليوم الأكثرية الصامتة من الشعب العراقي تتطلع بالتمني والحسرة لبزوغ الرمز الملكي الجديد بدعوة استغاثة لرب العرش العظيم لتحقيق الحلم المنتظر من أجل حماية ما تبقى من العراق الشقيق ليبقى عربياً موحداً مستقلاً متمتعاً بثرواته الطبيعية بأمن وأمان... فهل يتحقق الأمل بل يبقى حال العراق الشقيق دوماً خائفاً من مستقبله ومتطلعاً إلى أمسه.