د. إبراهيم بن ناصر الحمود ">
ضمير الإنسان هو قلبه النابض، ويقظته جزء لا يتجزأ من حياة قلبه، فالقلب الحي هو صاحب الضمير اليقظان الذي يدرك ما حوله ويستطيع التكيف مع ظروف الأحوال بعقلانية وشفافية دون التعدي على أحد، ومتى اتصف الضمير باليقظة فهذا عنوان سعادة صاحبه، وما تعانيه بعض المجتمعات اليوم من التردي وسوء الحال إنما ذلك بسبب موت الضمير لدى أفرادها.
والضمير الحي يعني الجسد الحي الذي يمتلك قلبا ينظر للحياة نظرة تفاؤل وتأمل بلا يأس، وصاحب الضمير الميت صاحب الجسد الفارغ من أي طموح في المستقبل ينظر للحياة نظرة تشاؤم منطوياً على نفسه لا يدرك من حوله، وهذا من أصعب الأمراض النفسية التي قد يطول علاجها، لأنه لا حياة للإنسان إلا بحياة قلبه حساً ومعنى، وكم عانت كثير من المجتمعات من التأخر والانحطاط بسبب الضمائر الميتة خاصة إذا كان أصحابها من أهل الحل والعقد.
الضمير الحي مطلب بحت لأجله أصوات الناصحين المخلصين لأمتهم وشعوبهم، عز عليه أن يجد من ينتشل أمة الإسلام من الضيق إلى السعة، ومن الذل إلى العز، ومن الأثرة إلى الإيثار.
الضمير الحي هو ذالكم الشعور الإنساني الباطني الذي يجعل المرء رقيبًا على سلوكه، ولديه الاستعداد النفسي ليميز الخبيث من الطيب في الأقوال والأعمال والأفكار واستحسان الحسن واستقباح القبيح.
والإسلام في صميمه شريعة حرة قد حررت العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ودلت على أن العزة مع الإيمان والذلة والدون مع الكفر والفسوق والعصيان.
فيا أصحاب الضمائر الميتة أفيقوا من غفلتكم وانظروا إلى واقع مستقبلكم وحرروا أنفسكم من الذل والهوان والخمول والكسل إلى العز والجد والعمل، فلو أن كل إنسان أدرك مغبة موت الضمير وما يترتب عليه من الخذلان والتعدي والفساد الإداري والمالي وعمل على إصلاح نفسه وحياة ضميره لتعدل الكثير من مقومات الحياة وكثرت الإيجابيات وتقلصت السلبيات، ولكن ما لجرح بميت إيلام.
إنه لن يستيقظ ضمير الأمة إلا بيقظة ضمائر أفرادها إذ كيف يستقيم الظل والعود أعوج، وكلما ضعف الضمير كلما تأخرت ساعة الوعي وكأنما على ضمائر الناس أقفالها، ثم إن الناس أصناف مع ضمائرهم: فصنف ضميره ظاهر حي يعرف المعروف وينكر المنكر يشارك أمته همومها وآلامها وآمالها، يواسي ويتوجع، ذليل على المؤمنين الصادقين، عزيز على الجبابرة المجرمين، لا يخاف في الله لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
وصنف من الناس ضميره مستتر لا محل له من الإعراب مثل العبد الذي هو كل على مولاه أينما يوجه لا يأتي بخير فهو لم يمت ولكنه مستتر لدنيا يصيبها أو حظ يستوفيه أو يخشى ذرية ضعافًا من خلفه ولسان حاله يقول: نفسي نفسي فلا يستفيد منه فقير ولا ينصح مستنصح وكأنه خلق ليأكل ويشرب، ومثل هذا إن لم يتعاهد ضميره فسيكون مع الزمن في عداد الضمائر الميتة.
وصنف ثالث وهو الضمير الميت الذي يغلب شره خيره أو لا خير فيه لا تجده في المقدمة ولا في الساقة لا يشاطر إلا في الشر ولا تراه إلا في دوائر القبح يأمر بالمنكر وينهى عن المعروف ويقبض يديه نسي الله فنسيه لا تجده إلا كاذبًا غاشًا أنانيًا همازًا لمازًا مشاء بنميم هو كالذباب لا يقع إلا على الجروح يعوذ مجتمعه من أمثاله حين يمسي وحين يصبح وكأنه إنما خلق ليثقل ميزانه بالآثام فيلقى ربه يوم القيامة وما في وجهه مزعة لحم.
أن الضمير الحي هو مضخة الإيمان الحقيقي وهو جامع الأعضاء في جسد واحد وهو جسد الأمة المتكامل كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) [رواه مسلم]
إنه لو حاكم كل واحد منا نفسه أمام ضميره لعلم أن شجرة الضمير الغافل لا تثمر أبدًا.
وأن من بالغ في الاستسلام لما يمليه عليه ضميره إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر فإن ضميره ستضيق به الواسعة بما رحبت وتميل عينه عن رؤية الحقيقة.
وسيعلم كل مسلم أن عواقب الصمت عن محاسبة الضمير وتعاهده أشد خطورة من أسبابه؛ ولذا فإنه ينبغي أن يستنطق كل حريص ضميره؛ لأن الضمير الصامت شيطان أخرس كما أن الضمير الناطق بالسوء شيطان ناطق.
وهل يمكن علاج الضمير الميت؟ نعم ما من داء إلا وله دواء، فموت الضمير دليل على جهل صاحبه إذ لا يجتمع العلم النافع وموت الضمير في قلب رجل واحد، فالعلم حياة للقلوب، فليس أخو علم كمن هو جاهل، وبعد التعلم تبدأ الحياة تدب في قلب هذا الرجل، ثم بمخالطة الصالحين والتعرف على الطيبين والشعور بالمسؤولية يكتمل العقد ونصل إلى يقظة الضمير الذي ينشدها كل إنسان على وجه الأرض.
ولا يشك صادق البتة أن الأمة بمجموعها وهي تكتوي بلهيب الصراعات والنكبات والعدوان والحروب التي أكلت الأخضر واليابس أحوج ما تكون إلى الضمير الصادق الذي لا غل فيه ولا حسد.
الضمير المشرق الناصح الذي يقدم مصلحة بني ملته ومجتمعه وأهله الظاهرة على مصلحته الشخصية القاصرة، عندما يكون الإنسان أنانيا لا يحب إلا نفسه ولا يسعى إلا لمصلحة نفسه، هذا هو المنغلق على نفسه فأنى له أن يسعد بحياة ملؤها الهم والضجر، فلنعمل على حياة قلوبنا لتحيى ضمائرنا، هذه والله هي الحياة الحقيقية.
- المعهد العالي للقضاء