د. عمر بن عبدالعزيز المحمود
يسألني بعضهم عن سبب كتابتي المكررة عن أعضاء هيئة التدريس، وعن المشكلات التي يعانون منها، أو تلك التي يعاني منها المجتمع بسببهم، ويبدو أنَّ السائل لم يشعر بمنزلة هذه النخبة التي يعوِّل عليها الوطن والمجتمع في التقدُّم والحضارة والازدهار، من خلال استيعاب المسؤولية العظمى الملقاة على عاتقهم.
إنَّ تميُّز أبنائنا في التفكير العلمي والقدرة على إعداد البحوث المتخصصة المفيدة مرهونٌ بأمانتهم وإخلاصهم في تدريسهم وإرشادهم وتثقيفهم، سواء في مرحلة البكالوريوس أو في الدراسات العليا، وقبل ذلك فالأمر كله يعتمد على توفيق الله سبحانه وتعالى ثم تميز ذلك الأستاذ الجامعي الذي أحسن الوطنُ -قبل المجتمع- الظنَّ به، فرهن أبناءه لديه، وتوقَّع منه أن يلهمهم الإبداع، ويمنحهم كلَّ ما من شأنه أن يسهم في جعل علميتهم قوية وثقافتهم متينة، حتى يجعلهم قادرين على الولوج في فضاءات العلم والمعرفة والبحث الأكاديمي وهم على ثقةٍ من الانتصار، أقول: لو استوعب السائل هذه المكانة لفهم حرصي على الكتابة المتكررة حول هذا الموضوع.
وإذا كانت هذه المسؤولية (المثالية) هي المنتظرة والمتوقعة من هذه النخبة المتميزة فإنَّ الواقع للأسف يشهد بأنَّ مجموعةً منهم دون المستوى المأمول، وأقل من المتوقَّع المنتظر، ولذلك أسبابٌ كثيرةٌ أشرتُ إلى بعضها في مقالاتٍ سابقة، وسأتعرض لغيرها في مقالاتٍ قادمة بمشيئة المولى، ولعل هذا المقال يضيء واحداً من أهم هذه الأسباب التي جعلتْ بعض الأكاديميين يفقد الشيء الذي كان يعطيه في وقتٍ مضى.
إنَّ أبرز الأمور التي تؤدي -في نظري- إلى ضعف عضو هيئة التدريس وعدم قدرته على تقديم الجديد المفيد النافع لطلابه هو إهماله لمواكبة جديد تخصصه، وإهماله لمسايرة الحديث فيه، وعدم اطلاعه على ما جدَّ في بعض جوانب العلم والمعرفة التي تخصص فيها، ومن ثم يجد نفسه -شعر أو لم يشعر- عاجزاً عن تقديم الجديد، ويظلُّ يكرِّر معلوماته القديمة التي أكل عليها الدهر وشرب وشبع ونام، دون أن يكلِّف نفسه في مراجعتها أو النظر فيما جدَّ فيها.
وأظنُّ أنَّ أسباباً كثيرة تدعو الأستاذ الجامعي إلى عدم مواكبة الجديد في تخصصه؛ منها: اعتقاده أنه بحصوله على الدرجة العلمية قد حاز المجد من أطرافه، وأنه ألمَّ بكلِّ تفاصيل العلم فضلاً عن عمومياته، وأنَّ كلَّ ما قيل عن هذه المعرفة المتخصصة التي كتب فيها رسالته العلمية قد أضحى تحت سيطرته، ولعلَّ مما ساعده على تصديق هذا الوهم الزائف نظرة المجتمع إليه، وحسنُ الظنِّ الذي ناله منهم، حيث يرون فيه القدوةَ في العلم والبحث، والمثال في عمق التخصص وكثرة القراءة واتساع الثقافة، ومن ثم تُعجِبُهُ هذه النظرة، وتخدعه هذه الرؤية، فلا يجهد نفسه في تطوير أو تجديد، ولا يتعب قلبه وعينيه في مواكبةٍ لحديث التخصص، ولا متابعةٍ لجديد المعرفة.
ومن الأسباب أيضاً الكسلُ والإهمال، وعدم الجدية في التطوُّر والتجدُّد، وحبُّ الركون إلى الراحة والدعة، رغم إدراك بعضهم أنَّ الحصول على الدرجة العلمية ليست نهاية المطاف ولا ختام الرحلة، لكنه يظنُّ أنَّ له الحقَّ في التوقُّف عن المتابعة والبحث والتطور، معتقداً أنه يكافئ نفسه بهذا التخلُّف العلمي والتراجع المعرفي بعد كتابته لرسالتين علميتين أجهد نفسه فيهما، ثم تطول هذه المكافأة، وتسرع الأيام، وتنقضي السنوات، وصاحبنا لا يزال على عهده القديم، لا يعرف شيئاً عمَّا يدور حوله، ولا يدري عن أيِّ شيءٍ جدَّ في تخصصه، ومن ثم تزداد الفجوة بينه وبين العلم، ويصبح في خصامٍ معه؛ لأنَّ العلم تجاوزه بمراحل عديدة.
ولعل من الأسباب التي أدت إلى هذا التقصير الواضح الفاضح انعدام الحوافز التي تميز الأستاذ الجامعي المتابع لكل جديد في تخصصه عن غيره ممن لا يعرف منه إلا ما درسه منذ أن كان طالباً، ولهذا أرى أن تتجه الوزارة إلى وضع حوافز مادية أو معنوية للأساتذة المتميزين الذين يتابعون كل جديد في العلم والمعرفة التي يتخصصون بها من خلال آليات معينة ومعايير محددة يتم من خلالها اختيارهم، وأظن أنه لو أُخذ هذا الأمر بجدية لربما تغيَّر الحال، ووجدت كثيراً من الأكاديميين ينفضون الغبار الذي خيم على عقولهم، حتى لو كان الدافع إلى ذلك حافزاً مادياً وليس شعوراً بأهمية الاطلاع والمتابعة.
ثم إنَّ هناك سبباً مهماً آخر يبعد بعض الأكاديميين عن مسايرة الجديد في تخصصه، وهو انشغاله بالأمور الإدارية، ولهثه وراء المناصب، ومن ثم تضحي متابعة الجديد آخر اهتماماته، هذا إن وجد وقتا لذلك، وسبق أن كتبتُ مقالاً حول انشغال الأكاديمي بالعمل الإداري، وقلتُ حينها: إنَّ القريبين من العمل الإداري يعون تماماً الصعوبات التي تواجه هذا النوع من الأعمال، والوقت الذي يستغرقه الموظف في تنفيذ أمور مكتبية وإجرائية تحتاج إلى قدر كبير من المتابعة والتركيز، حتى إنَّ بعض الأعمال الإدارية تتطلب من الموظف العودة بها إلى المنزل لإنجازها وربما السهر عليها، بسبب كثرتها وضخامتها وحاجتها إلى سرعة الإنهاء، وإذا أُوكل إلى الأكاديمي عملٌ كهذا فكيف سيتمكن من العودة إلى شخصيته الأكاديمية؟ وهل يمكن أن يجد وقتاً لإنجاز رسائله العلمية أو كتابة بحوثه؟ وهل يمكن أن يكون على قدر كافٍ من التركيز في أثناء عمله البحثي وهو ينوء بأعباء هذا العمل الإداري الذي يلتهم وقته كما تلتهم النار الحطب؟
إنه لمن المحزن أن يجمعك مجلسٌ بأستاذٍ كبيرٍ في السن يشاركك التخصص، وتتحاور معه في جانبٍ من جوانبه، متوقعاً أنك ستفيد من خبرته العريضة وتجربته الطويلة، وحينها تفجع بأنَّ الرجل لا يعرف شيئاً عن تخصصه منذ عقود، تسأله عن كتابٍ صدر حديثاً فيؤكد لك أنَّ في كتب التراث التي دَرَسها ودرَّسها غنى وكفاية! تُحدِّثه عن نظريةٍ جديدةٍ ملأتْ الآفاق فتتفاجأ أنه لم يسمع بها من قبل! والأدهى والأمر أنك تجد هذا الأستاذ يُكلَّف بتدريس طلاب الدراسات العليا، ويلقي عليهم محاضرات تتضمَّن معلوماتٍ لا يزال يردِّدها منذ عشرين سنة أو تزيد، أما الأكثر حزناً وإيلاماً فهو حين تجد كثيراً من الأكاديميين يسيرون على هذا النهج، فلا يتابعون جديدا، ولا يسايرون حديثا، وآخر عهودهم بالتخصص وما جدَّ فيه ما أنجزوه من رسائل علمية منذ عشرات السنين!
إنَّ الخطوة الأولى لتصحيح هذه المشكلة هي اعتراف الأكاديمي بهذا التقصير، وشعوره الحقيقي بالخجل من عدم متابعة الجديد في تخصصه وهو يحمل درجةً علميةً عاليةً فيه، ويقينه أنَّ العلم يتطور ويتجدَّد في كلِّ يوم، وأنه إذا أراد اللحاق بالركب فلا بُدَّ له أن يواكب كلَّ جديدٍ في التخصص، حتى يستطيع فهم ما يحدث واستيعاب ما يكون، وحتى يمكن له أن يُقدِّم لطلابه معرفةً حقيقيةً تستوعب القديم والجديد، وتطلعهم على آخر المستجدَّات في تخصصاتهم، حتى يمكنهم التجديد والتطوير، والبدء مما انتهى إليه الآخرون.