عبدالعزيز صالح الصالح ">
ينبغي علينا أن ندرك تمام الإدراك أن النشاط العقلي والفكري قوة وضعف وقدرة واستيعاب وفهم ووعي.
ويتجلى هذا التفاوت بين البشر في طريقة تعاملهم مع الثقافة الإسلامية وتتمثل في ثلاث عناصر مهمَّة تحدد أبجديات النَّشاط العقلي - والفكري مع مساره وثماره.
العنصر الأوَّل - يعتني بالمجال الحضاري سواء كان ماضيًا موروثاً أو حاضراً مستورداً أو واقعاً ملموساً أو نصاً مقروءاً أو مسموعاً أو مرئياً... وينحصر هذا الأمر في دور العقل والتّقيد بما يقوله العنصر الآخر من ثقافة ومعرفة وعادات وتقاليد - حيث إن العقل يحرص تمام الحرص على محاكاته في أقواله وأفعاله ومشاريعه النهضوية وربما أن المحاكاة والاستنساخ تتعدى في حدود الثقافة الإسلامية والأدب والفن.
فالعقل تارة يتحرك ضمن جوانب الثقافة الإسلامية المقروءة والمرئية والمسموعة حيث إن العقل المتلقي يصبح صورة منسوخة عن العقل البشري المحرك لهذه الثقافة على حد سواء - سواء كانت هذه الثقافة قديمة أو موروثة أو مستوردة ومن خلال تلك الأمور يتلقى دعاة التغريب في استنساخ ثقافة الآخر المستوردة - حيث إن دعاة الدعوة الإسلامية في مستوى المتلقي من الثقافة واستنساخ ما فيها دون وعي للثوابت والمتغيرات فيها فإن العاطفة بشكل عام محلها العقل في الترويج لهذا الموروث أو هذا المستورد وقد يتم الانفعال والتفاعل مع هذا وذاك في لحظة غياب العقل البصير فلا يستطيع المرء المقلّد إلى الثقافة الإسلامية بإطارها الزمني أن ينظر إليها من باب العاطفة المشبوبة ورغبة مطلوبة في محاكاة النموذج الموروثي أو المستورد فيحاول من خلال هذه النقاط سابقة الذكر أن يدافع عن أخطائه وسلبياته وكأنه يخوض هذه المعركة الجهادية للدفاع بشتَّى الطرق عن تراثه العريق - إن هذا التراث الإسلامي القيمَّ إنتاج العقل البشري وأنه ليس نصًّا شرعياً لا يجوز أن تخالفه أو تناقضه أو تجادله فالشريعة الإسلامية بشكل خاص ثابتة المعالم.
العنصر الثاني - يمتاز عن الأوَّل بأنه أعلى وارقى لأن العقل البشري يتجاوز مرحلة التلقي المباشر والفهم المتداول العادي للأمور الثقافية الحضاريَّة إلى مستوى الفهم التّأويلى فهو يدل دلالة واضحة على أن العقل البشري يقوم بدور فعّال في إنتاج الثقافة وفهم الواقع من خلال إبداء الرأي وتقديم الرأي المفسر فهو يعمل بنشاط للاستنطاق والاستكشاف في الثقافة وليس للتقليد والاستنساخ طريقاً عنده لابد أن تتمحور حركة العقل هنا - إلى مبدع الثّقافة والتعرف على ظروفه الخاصَّة والعامَّة المحيطة في ابداعه وإنتاجه الثقافي والحضاري والسّير في أجوائها ومناخها ومؤثراتها لاستيعابها وفهمها ومعرفتها من غير رغبة فقد عانى العقل المعاصر من مشاكل التّأويل والتبرير ومحاولات التوفيق والتلفيق في مشاريعه النهضوية المطروحه والمستوردة التي أحدثت فجوة كبيرة بين الثقافة الرسمية المستوردة والثقافة المختزنة في عقول الشعوب المسلمة ووجدانها.
العنصر الثالث - فإن العقل البشري يرتقي من مرحلة التلقي المباشر إلى مرحلة أعلى وهي {التقويم} وبعد ذلك يكون العقل البشري قد أكمل دورته في التلقي والتّأويل والتقويم - فهذه العناصر الثلاث متداخلة متكاملة مع بعضها البعض حتى تتكون الرؤية الصائبة للثقافة المقروءة فلا بد للعقل البشري أن يكمل عمله السابق في العنصر الثالث في تقويمه وتشخصيَّه وكشف عيوبه وتناقضاته بعد عملية تفسيره ومعرفة ما فيه من أفكار وظروف فهذه العناصر الثلاث الخاصة بالنشاط الفكري والعقلي تصلح معياراً نقدياً تحتكم إليه في فهم العقل المعاصر أو الفكر الإسلامي المعاصر لمعرفة حدود نشاطه ومستوى قبوله والعنصر الذي يتحرك فيه وطريقة عمله في كل عنصر من هذه العناصر الثلاث وهذا يعتبر بداية الطريق في تكوين العقل المسلم على أسس معرفية صحيحة وواضحة وتبعد الفكر الإسلامي من جموده وتحجره.
ولا شك أن - أدلجة المعرفة- أو أحادية الفكر قد دفعت بالعقل البشري على أن يحصر نشاطه في عنصر التلقي المباشر من الطرف الآخر رغبة أكيدة في إخفاء كافة العيوب الهزيلة فقد أدى ذلك الأمر إلى ضياعه وتمزقه وتشتته وفشل كافة المشاريع النهضوية الجديدة ولو أن النّشاط الفكري أو العقلي كان يتحرك بآلياته وأدواته القيمة في مناخ سياسي متجدد ومتطور في عمله لا ينحصر في العنصر الأوَّل وإنما تجاوز ذلك الأمر إلى الشمولية وجديته.
اما الفكر الإسلامي فكر متجدد يمتاز بالثوابت الشرعية ومتغيرات التدين فقد تدور صورة التدين حول محور الثوابت الشرعية الثابتة في ميادين الحياة ومن هنا نلاحظ أن تجدد عناصر الحياة وتطورها يكمن في هذه الثنائية الاساسية في هذا الكون. وحياة المرء والفكر الإسلامي يخضع أيضا لهذه الثنائية في هذا الدين والتدين الذي ينتابه عناصر التغير وفق الظروف والأوضاع المحيطة بالمتغيرات المتعددة.
فالإيمان يزيد وينقص فالمسلم الحق مطالب أن يحقق الإيمان حينا بعد حين فيظل في نماء وتطور وازدهار وازياد في مجال حركة تفاعله وتجاوبه مع الظروف والأوضاع المتجددة حتى مراتب التقوى التي هي ذروة الإيمان التي تمر بمراحل متعددة وشاملة ضمن حركة التفاعل الاجتماعي والشعوري.
إذ نلاحظ هذا الأمر في قوله عز وجل {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (سورة المائدة آية 93)، حيث إن مراتب التقوى ومقاماتها تحتل مكانة صحيحة تمثل حركة تفاعل المرء مع محيطه الاجتماعي حتى بلغ مقامه وحسه وشعوره وفكره.
وإذا تأمل المرء في قصص الأنبياء كافة فإنه يجد أن الله سبحانه وتعالى يختار النبي الكريم من محيط بيئته حتى يحقق المعنى في تفاعل وأهدافه المقصودة مع هذا الدين الذي غرس في ثنايا هذا المجتمع.
فهذا يدل دلالة واضحة على أن المبادئ الثابتة في دعوة الأنبياء واحدة - وتاريخ الإسلام حافل بحركة دائبة من التدين الذي يحقق الثوابت الدينية من مادة الحياة فإذا توقفت حركة المسلمين المتجددة واستكانت إلى صورة ثابتة فإنها تشكل من خلال تاريخهم البعيد عن دينهم وهذا يعني أن التجديد صفة ملازمة للحركة - والحركة أساس الإسلام وجوهره فهي حركة نحو التوجه إلى رب العباد في شتى صور الحياة.
فلابد من إحياء المفاهيم الإسلامية الأصلية وبعث روح الحياة في معاني التدين - فالدين حركة تفاعل اجتماعي وحضاري للرقي والتقدم بالمرء نحو أسس الخير وربطه بالحياة والسلوك حيث إن الدين بعيد كل البعد عن مظاهر الجمود والتقليد.
لأن كتاب الله الكريم يركز على إذابة الجمود الفكري والتحجر العقلي وهذه من مدلولات كلمة {اقْرَأْ} التي تهدف إلى إذابة الجمود بفعل القراءة المستمرة في هذا الكون - وحياة المرء ملتزمة بقراءة شاملة ومتفاعلة لتؤتي ثمارها وفوائدها في فتح الآفاق الكونية والآفاق العقلية والآفاق الفكرية والروحية فإن دعوة القرآن الكريم إلى التفكير والعقل - فهي دعوة لأخذ مصدري المعرفة الحسية والعقلية حيث إنه دعوة مستمرة ومتجددة تنقل المرء من طور علمي إلى طور عملي وفق حركة تفاعلية وقدراتها تمكنه من امتلاك المعرفة التي هي حركة متجددة وليست ساكنة ثابتة وبذلك يضع القرآن الكريم الأمة على طريق النهضة العلمية لكي تأخذ نصيبها من التقدم والحضارة والرفاهية وسعادة المرء ولابد أن أشير هنا إلى أن هذه النهضة المطلوبة ليست ترفاً وإنما هي ضرورة لازمة لتحقيق عبادة الله في صورة الحياة كلها وهذه الشمولية التعبدية لا تتحقق الأمن خلال التفاعل مع الواقع للنهوض به ولكن النهضة المنشودة لها قوانينها وأصولها وهي لا تحابي أحداً لعقيدته أو لدينه فكل من قام بأصولها أو قوانينها فإنه يصل إلى ثمارها ونتائجها ولو كان غير مسلم.
ونوجز ما ذكر آنفاً أن مقومات بالنشاط العقلي والفكري وأثره في إبراز حياة الأمة المتمثلة في أعمدتها الأساسية في الأصالة المعاصرة والديمقراطية والتكنولوجيا وهذه المقومات تقوم على فكر متنوع وحياة متجددة متطورة ضمن الثوابت الشرعية.