د. عبد الرحمن بن سليمان الدايل ">
أما آن الأوان لهذه الأمة أن يكون لها موقف موحَّد، وأن تقف كالجسد الواحد أمام التحديات التي تواجهها؟ وألم يحن الوقت لكي يجتمع العرب على كلمة سواء ترفع من قدرهم، وتُعلي مكانتهم وتجعل لهم كلمتهم المسموعة في عالم اليوم؟
أسئلة أظنها تدور في أذهان أبناء أمة العرب كلَّما رأوا اجتماعًا هنا أو مؤتمرًا هناك، يحاول أن يقارب بين مواقفهم في الملمَّات، أو يلمَّ شملهم في مواجهة التحديات، أو يجمع صفوفهم المبعثرة ليظهروا على قلب رجل واحد.
وما هذا الواقع المرير الذي آل إليه حال أمتنا اليوم؟ وهل حدث لها ذلك فجأة دون مقدّمات أو من غير سابق إنذارٍ، وكأن بقايا كويكبات أو أجرامٍ سماوية ملتهبة أخذت تتساقط عليها فجأة فإذا بها تُدمر كل شيء تأتي عليه من استقرار بعض الدول وسيادتها وأمنها، فتجعلها ضعيفة بعد أن كانت قوية، ومتشرذمة بعد أن كانت متماسكة، ومتقاتلة بعد أن كانت أسرة واحدة متعاونة. وكيف أحاطت الشرور ببلدان وطننا العربي وتفاقمت من حولها، ولم هذا الحال المُرعب والخطير الذي أصبح يسيطر على خارطة عالمنا العربي؟
معذرةً إن كنَّا قد بدأنا حديثنا بهذه التساؤلات غير المتفائلة، ذلك لأن الإجابات عليها مخيفة، ونراها جاثمة ًعلى أرض الواقع وماثلة أمامنا، لتكوِّن واقعًا مخيفًا تمرُّ به أمتنا العربية والإسلامية، وإذا ما أدركت أمتنا أسباب ذلك ووقفت على العوامل التي أوصلتنا إليه أمكن لها أن تعود إلى صوابها وتتجاوز أزماتها، وتقف على الطريق الصحيح لتحل مشكلاتها التي تعقدت، وتصل إلى العلاج الناجع لما ألمَّ بواقعها من هموم وأمراض، ويمكنها أن تتعامل مع ما يُخطَّط لها بقوة وحكمة وذكاء، حتى لاتصل إلى المصير الذي يريده لها أعداء الأمة، الذين يعملون بخبثهم ودهائهم على أن يكون أخطر وأسوأ مما نحن فيه الآن.
نقول ذلك، ونحن نشاهد حالة الضعف التي تعيشها أمتنا، والتشتت الذي تمرُّ به، والأحوال الخطيرة التي تعيشها شعوب دول عربية عديدة، فقدت أمنها، وضاع منها استقرارها، وأصبح الاقتتال يسيطر على أجزائها التي يسعى أعداؤها إلى تفتيتها لتصبح الدولة الواحدة دويلات متناحرة متقاتلة، وكل ذلك يحدث في أمة عاشت منذ القِدم أمة واحدة، وسجَّل لهم تاريخهم المشترك أن قوتهم دائمًا كانت في وحدتهم، فإذا بهم اليوم لا يقدرون على مواجهة ما يحدق بهم من مخاطر بموقفٍ موحَّد أو عبر كلمة واحدة، ولو كانت لا تتعدى عبارات الشجب أو الاستنكار، ذلك لأن مخططات أعداء الأمة زرعت في جنباتها مَن يتشيعون لمواقف غريبة تشقُّ الصفّ العربي، وتحارب الكلمة الواحدة، وتحُول دون القرار الواحد والموقف الموحد.
إننا نلاحظ ونتذكّر ذلك كلَّما احتاجت أمتنا إلى موقف موحَّد يصدر عنها ويتناسب مع حجم ما تواجهه من تحديات، ولكن كيف السبيل إلى ذلك وقد تمكن أعداء الأمة من بثّ بذور الفتنة حتى استشرت في جسد الأمة أفكار متطرفة ودخيلة تعهدها الأعداء بسمومهم فرفعت جماعاتها السلاح في وجه الشرعية، وسعت للتخريب والدمار وأحاطت أفعالها بمسميات هي أبعد ما تكون عن حقيقة مساعيها البغيضة، التي تسعى لتحقيق أهداف الأعداء الذين أصبحوا مكشوفين على الملأ ولم تعد أحقادهم مستترةً أو خافية على أحد.
إن حاجتنا إلى توحيد مواقفنا العربية هي حاجة ملحَّة ولا تقلُّ أهميةً عن حاجتنا للإفصاح عن تلك المواقف، فالواقع العربي المخيف لا يتحمَّل أنصاف الحلول، ولا الغموض في التوجّهات ولا التلاعب في المواقف، وإذا أراد العرب معالجة واقعهم فعليهم أن يعترفوا بجسامة ما يخططه لهم أعداؤهم منذ زمن بعيد، يعود إلى وقت أن سعى الاستعمار إلى شقّ صفوفهم وعرقلة قيام أي نوع من الوحدة فيما بينهم، بل وحَرص على نشر عوامل الفُرقة والتشتت، وعمل على المزيد من التجزئة والتفتيت للقطر العربي الواحد بمختلف الأساليب، وتحت دعاوى ومسميات أطلقها أعداء الأمة مثل تقرير المصير أو إعطاء الحكم الذاتي، فاستلب أجزاءً من بعض الأوطان العربية وفَصلها عن الدولة الأم تحت تلك المسميات، وقام بفصل بعضها عن أمتها العربية وأعطاها لمن لا يستحق، ثم استمرت المؤامرة بصورة أشد شراسة ظهرت نتائجها البغيضة فيما نشهده واقعًا مؤلما يتعرض له عالمنا العربي اليوم، في ظل تلك المؤامرات التي لن تهدأ أو تخمد إلا إذا رأى العالم من العرب موقفًا قويًّا موحَّدا.
إننا في حاجة لموقف صلب لا يلين بعد أن شرع أعداؤنا سلاح الإرهاب في وجه عالمنا العربي ليحققوا مآربهم، وها نحن نشاهد المنطقة العربية وقد أصبحت مرتعًا للإرهاب الذي يُغذيه ويشد أزره أعداء الإسلام وأعداء الأمة العربية، حتى إنهم يعارضون مقاومته ويصرحون بذلك علنًا عندما يحاولون التدخل في الشؤون الداخلية لدولة آمنة مستقرة، لها مكانتها في الساحة الدولية وفي نفوس المسلمين في مختلف أنحاء العالم، تُطبّق شرع الله لحماية العقيدة وحماية النفوس البريئة، وحفظ الأمن وصيانة المكتسبات، فإذا بالأعداء لا يروق لهم ذلك فيتطاولون ويهاجمون، وهنا كان الموقف الواضح والحازم من مملكة الحزم، التي تجعل لكل حادثة حديثًا، ولكل موقف ما يستحقه من حسم وحزم، يضع الأمور في نصابها ويجعل العدو يعيد حساباته من جديد.
نقول إننا نحتاج - نحن العرب - إلى موقف واحد وحازم، يجمع قُوانا، ويحشد إمكاناتنا، ونرتفع فيه فوق اختلافاتنا وخلافاتنا، موقف يصارح فيه الأخ أخاه ونتخذُّ من خلاله مواقف تشدّ من أزر الصديق، ونتحدث فيه بصوت مسموع، يقرع مسامع الأعداء ويقول للعالم أجمع إن العرب قد وعوا الدروس، ووقفوا على حقائق ما يُحاك لهم، وأنهم قادرون على أن يوحّدوا كلمتهم، وأن يرتفعوا إلى مستوى المسؤولية بالأفعال وليس بالشعارات والأقوال، وأنهم قادرون بعون الله ثم بتماسكهم أن يقفوا في مواجهة المخططات التي تُكتب وتُرسم في غرف مظلمة وحالكة السواد، وما ذلك ببعيد على أمة تمتلك من عناصر البقاء والنماء والتعاون والوحدة ما هو مسجَّل ومعروف عنها منذ أقدم العصور.
إن المواقف الموحدة للأمة العربية ليست في حاجة لمن يقوم بالتنظير لها أو بكيفية تحقيقها، فالعرب دائمًا يتجمعون في أوقات الأزمات، ويتواسون في وقت الشدة وهل هناك أزمة أو شدة أسوأ مما هم فيه الآن؟ بعد أن تكالبت عليهم الأخطار والفتن وبعد أن أصبحت مواقف أعدائنا معلنة وواضحة، واللعبة الدولية أضحت مكشوفة، وأصبح الأمن العربي مهددًا في جوانب كثيرة، وصار بعض أبناء العرب مصدر خطرٍ على أوطانهم بعد أن تلاعب الأعداء بعقولهم، وسيطر على أفكارهم، في إطار تخطيطهم لحشد كل أسلحتهم البغيضة، لتحقيق ما يتوهمونه من انتصار على العرب والمسلمين.
إن عالمنا العربي قد أصبح الآن في بؤرة المواجهة، فهل باستطاعته أن يتمسك ببوادر التوحّد في المواقف التي ظهرت في الآونة الأخيرة، ليتمكن من مواجهة التحديات، إن الطريق أمامه يسير إذا ما عمل على تحويل المعاهدات والاتفاقيات التي مضى عليها عقود من الزمن إلى واقع ملموس؟ هل يستطيع أن يعيد الأمل لتنفيذ معاهدة الدفاع العربي المشترك والتعاون الاقتصادي الموقعة في منتصف القرن الماضي وغيرها من الاستراتيجيات العربية المعطلة لمجابهة الأزمات والتحديات المتعددة؟
نعتقد أن ذلك ممكن، وإلا فسوف نظل نتساءل: أين أنتم يا عرب هذا الزمان؟
- وكيل الوزارة، بوزارة الثقافة والإعلام، سابقًا