سياحة في معاني الذكر الحكيم 17-32 ">
إن من الأساليب الإعجازية البلاغية للقرآن الكريم أنه يستنهض عقل القارئ لكي يتمم الجزء المراد قوله من الآية، فكأن القرآن يدفع القارئ إلى المشاركة. وهذا الأسلوب إنما هو لاختبار فهم القارئ ومدى تركيزه، فهو يوصلك إلى أول الطريق ويطلب منك أن تكمله. ومثال ذلك من القرآن هو قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ}.
إذا تأملت هذه الأية فأين المثل الذي طلب منك أن تسمعه؟ لو قال قائل: إن المثل هو إن الذين يدعون غير الله لن يستطيعوا أن يخلقوا ذبابا ولو جمعوا له عدتهم وعتادهم، وأن هذا الذباب لو سلب شيئا من ابن آدم لا يستطيع أن يستخلصه منه لضعفه أمام هذه الحشرة الصغيرة، فالطالب والمطلوب كلاهما ضعفاء مساكين.
لقلنا له: إن هذا ليس بمثل، وإنما هي قصة توضح المثل الذي لم يذكره القرآن، وطلب من القارئ أن يأتي به بنفسه، لأن الأمثلة عند العرب معروفة الصياغة معلومة الأسلوب، وقد يختلف المثال باختلاف ثقافة القوم، ولكن القصة تبقى واحدة. ولذلك فإن المثل لهذه القصة قد يكون (الإشارات تغني اللبيب عن العبارات) فيا أيها الإنسان كيف تلجأ إلى من لا يقدر أن يخلق ذبابة وتترك خالقك وخالق السماوات والأرضين ومن فيهن؟.
فالقرآن حين قال: {ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ} إنما هو استماع عقلي يستنطق منك أيها المؤمن استعجابك ممن يعبد غير الله مع ظهور آياته في الآفاق وفي الأنفس. بالله عليك أي خيبة تلك التي أوهمت هذا الإنسان بأن يستند إلى البشر ويتكئ عليهم، وينسى ربه الذي تكفل بعنايته إذا أناب العبد إليه.
فاسأل ربك الهداية والثبات حتى لا تكون من الخائبين. وأنت أيها المسلم لا ترضى لنفسك أن تكون خائبا، فاسع جاهدا بدعوتك أن ترفع عن غيرك هذه الخيبة.
الشيخ إبراهيم بن الأخضر بن علي القيم - شيخ القراء بالمسجد النبوي