عبدالعزيز محمد الروضان ">
احتدم النقاش والجدل متى كانت بدايات الفلسفة سواء اليونانية أو الرومانية؟ ولكن دعوني أترك هذا الجدل فأقول: إن الفلسفة على مر التاريخ لا سيما العصور الموغلة في القدم، والتي ظهرت فيها الفلسفة في بواكير نشأتها الأولى لم توجد منذ القدم إلا وقد سبقها وحي السماء.. فجذور الفلسفة الحقة مستقاة من وحي الأديان السماوية، وإن كل فلسفة أصابت كبد الحقيقة وأمسكتها بناصيتها فهي فلسفة دينية الصبغة.. لأنها أقصد الفلسفة هي أفكار تتوكأ على مبادئ الأديان. وإن كل فلسفة أبعدت النجعة عن الحقيقة هي لكونها لم تلتحم ولم تفهم وحي السماء ومن ثم كانت أفكار هذا الفيلسوف أو ذاك عقيمة تجافت عن الحق.
ما أود قوله هو أن كل فيلسوف تجلل بدثار الحق فهو لأنه استمد فلسفته من جوهر الأديان السماوية. ولكن ربما يتبدى لنا سؤال مفاده لمَ ضل بعض الفلاسفة في أطروحاتهم !؟ إن السبب هو لأن هذا الفيلسوف أو ذاك نذر على نفسه أن يفهم كل علة في أوامر ونواهي الأديان، ولو كان على سبيل العناد ! فالذين قد ضلوا وأضلوا حسبوا أنهم يستطيعون أن يقعوا على تفسير تام لعلل الأديان ومعرفة الكون ولو كان على سبيل العناد وإقحام أنفسهم في أشياء لا تستطيع عقولهم الوقوع على مضامينها، فعقولهم لا تتحمل ذلك. فالله تعالى قد اختص نفسه بأشياء لا يعلم كنهها إلا هو جل جلاله.
فالمعرفة الكلية والمتناهية ليست متاحة لبني البشر. وعلى سبيل المثال لا الحصر يقول الله تعالى عن أولئك الذين يريدون أن يعرفوا كنه الروح: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} فمن هذا المنطلق فإن كل فلسفة تعتقد أنها تمسك بزمام معرفة كل شيء هي في بؤس شديد لأنها تقحم ذاتها في أشياء لا يمكن لأحد بأي حال من الأحوال أن يصل إلى ما هيتها مثل المثال الذي سقته آنفاً.. إن كل فلسفة أو فيلسوف يمكن أن يكون عقله هو دليله في كل شيء لا سيما في معضلات الكون، فإنه ولا شك سيفلس يوماً وسوف يعيش في دياجير الظلام، ولن يخرج منها إلا بالعودة إلى مفاهيم الأديان السماوية.
أيها القارئ الكريم، سوف أذهب لأدلل لك على الحيرة الخانقة التي يعيشها الفلاسفة أحياناً بعيدين عن وحي السماء وهو مبدأ « النسبية « فكل شيء في هذا الوجود نسبي حتى في الأخلاق، فيرى الفلاسفة أن كل شيء نسبي وأنه يتفاوت من شخص إلى شخص، وهذا المبدأ إن كان صحيحاً إلى حد كبير فلا بد له من مؤطر، وإن المؤطر الوحيد لمبدأ النسبية هي الأديان. فهي الفيصل في توضيح كل شيء فالدين هو الذي يفرز الحق من الباطل وما سواه يضل عند الفرز.. فالفلاسفة يقولون منطلقين من مفهوم هذا المبدأ أنه يجب أن لا تُنتقد الثقافات والأخلاق على سبيل المثال لا الحصر عند بعض الشعوب طبقاً لمفهوم مبدأ « النسبية « ولكن إن الأديان السماوية هي الوحيدة القادرة بالتعرف على الحق من الباطل فتقول لنا هذا حسن وذاك سيئ، ومن ثم تتخلص البشرية من مأزق « النسبية « فمن هذا المنطلق فأي فلسفة أصابت كبد الحقيقة فهي بسبب ارتباطها بتعاليم السماء، وإن أي فلسفة شطت وكان لها نزق فكري فهو بسبب بعدها عن وحي السماء.
لا أريد أن تأخذني أفكار هذا الموضوع ذات اليمين وذات الشمال فأبتعد عن جوهر المقال.. ولكن ما أريد أن أخلص إليه في هذا المقال المتواضع هو ان منشأ الفلسفة التي وقعت على الحق هو منشأ ديني محض، وأن أي فلسفة ضلت عن الطريق هو بسبب بعدها عن وحي الأديان. وهنا قفز إلى ذهني شيء هام وهو من مبدأ المهنية في الفكر فلا بد أن أذكره وهو أن كل فيلسوف تحت قبة السماء وفوق أديم الأرض دائماً يقصد الحقيقة ويريد أن يضيف معرفة إلى المجتمع البشري، ولكن أحياناً يخفقون في ذلك.. إذاً ما من فلسفة اهتدت إلى الحق إلا لكونها تمازجت مع وحي السماء وتماست معه، وعرفت مضامين الأديان.
وما من فلسفة نأت إلا لكونها عجزت أن تعرف مراد الأديان. وإذا كان الأمر كذلك فيجب على البشرية أن تتشبث بوحي السماء فهو أسرع الطرق لمعرفة الحق. وإني أقول لكل من يريد أن يُقحم نفسه بالاطلاع على الفلسفة إني لم أر صواباً أصدق من فلسفة المثلث اليوناني وهم (سقراط وأفلاطون وأرسطو) وأثني معهم بالفلسفة (الرواقية) فجميعهم أصابوا الحق.
وأنا على هوامش هذا المقال سأتطرق إلى شيء هام جداً وهو أن علماء عصر التنوير وفلاسفته الذي يعيش الغرب على أفكارهم اليوم يقولون: إننا أحرزنا نصراً مؤزراً بانتصارنا على التعليم الكنسي! ولكن هذا الكلام يحتاج إلى مزيد إيضاح وهو أنه بعصر التنوير كانت الأديان السماوية الصحيحة قد توارت على يد رجال الكنيسة، وحسب علماء التنوير أن الدين السائد آنذاك يمثل دين الله الصحيح. ومن ثم كان علماء التنوير لديهم حساسية من هذا الدين الذي تمثله هذه الحقبة من الزمن. ولكني حينما أذهب ممجداً الفلسفة القديمة لأنها كانت على وفاق تام مع رجال الدين آنذاك بعكس ما عليه العالم اليوم.. وختاماً ما كانت لتطل علينا العلمانية برأسها إلا بعدما كان هناك نضال مرير بين الدين المحرف والعلمانية ،وهذا النضال هو ردود أفعال منعكسة بين تعاليم الكنيسة ومخرجات عصر التنوير العلمية , وإلا فما الأديان السماوية الصحيحة ماهي إلا سند لكل علم تكتنفه الحقيقة. إذا كان عصر التنوير الذي نعيشه اليوم بلغ أوجه وعجز التعليم الكنسي أن يباريه فهو لأن الدين الكنسي اليوم شط عن مراد الله المتمثل في أديانه وإلا قولوا لي بالله عليكم متى كانت الأديان حجر عثرة أمام العلم والعلماء!؟ وهذا الدين الإسلامي الذي تتوجت به الأديان فيه نص من نصوصه يقول: {إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} إذاً فالعلم هو الممهد لخشية الله وهو المحراب الذي فيه يتوصل العالم فيه إلى الله.