نواصل اليوم ترجمتنا لمختارات من دراسة البروفيسور بيورن أولاف أوتفيك وهي الدراسة الأولى ضمن «مختارات د. حمد العيسى-دراسات نادرة» وهو مشروع شخصي دشنه كاتب هذه السطور مؤخراً عبر مؤسسة الإنتشار العربي في بيروت. البروفيسور بيورن أولاف أوتفيك هو أستاذ تاريخ الشرق الأوسط في قسم الدراسات الثقافية واللغات الشرقية، كلية العلوم الإنسانية ، جامعة أوسلو، مملكة النرويج. ونشرت الدراسة في يونيو 2014:
ومن المثير للاهتمام ملاحظة اللغة المستخدمة في مقدمة البرنامج في الجزء المتعلق بالنظام السياسي المفضل: الحزب يدعوا لـ «إقامة دولة عصرية على أسس حديثة».(33) اللهجة الليبرالية للبرنامج قد تكون مضللة إلى حد ما. لقد تم تأسيس الحزب بسرعة وبرنامجه بالكاد يعبر عن إجماع أعضائه بل ما رأت القيادة غير المنتخبة أنه موائم سياسيا في ذلك الوقت. (34) التطورات اللاحقة كشفت عدداً من التوترات والتأرجح المستمر بين توجه براغماتي حداثي وتوجه متصلب في تفسير الأعراف الاجتماعية الإسلامية. ولكن من المنصف القول بأن الحزب كان حول مسألة الديمقراطية ملتزما بالإجراءات الديمقراطية في الانتخابات واتخاذ القرارات العامة. ولكن رؤيتهم ليست بأي حال من الأحوال «ديمقراطية-ليبرالية» بأي تفسير محتمل للمصطلح. فكما سنناقش في «النتيجة» لاحقا ، فقد تم اختبار درجة التزام الحزب بالإجراءات الديمقراطية بشدة خلال انقلاب يوليو 2013 ضد الرئيس المنتخب بالرغم من أنه لا بد من القول أن حزب النور «كان أكثر ترددا» في دعمه للانقلاب من معظم الأحزاب التي تزعم بأنها ليبرالية أو يسارية.
وفي لجنة كتابة الدستور اشتبك حزب النور مع الاتجاهات العلمانية وحزب الحرية والعدالة حول صياغة المادة الثانية في الدستور الجديد. فقد فضل حزب الحرية والعدالة اعتبار أن «مبادئ الشريعة» الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع وهي نفس الصياغة في الدستور السابق. ولكن السلفيون فضلوا الإشارة – ببساطة - إلى «الشريعة» فقط بدلا من التعبير الغامض «مبادئ الشريعة». (35) وقَبِلَ حزب النور في نهاية المطاف اقتراح حزب الحرية والعدالة ولكنه بدى عصبيا بشكل متزايد جدا لأن هذا التعبير غامض جدا وقد لا يعرقل صدرور تشريعات مخالفة لشريعة الله. ولذلك قام حزب النور والسلفيين الآخرين بالدفع تجاه تعديل بديل. أحد الاقتراحات كان إدخال مادة تنص صراحة على حظر سن تشريعات تخالف الإسلام. وفي النهاية، تمت إضافة مادتين إلى نص الدستور والذي تعرض لجدل كبير قبل أن يُصوت بقبوله 64 % من الناخبين في استفتاء أجري في ديسمبر عام 2012. وجاء في المادةالـ4 «يؤخد رأي هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف في الشؤون المتعلقة بالشريعة الإسلامية». وفي المادة الـ219 تم تعريف مصطلح «مبادئ الشريعة» الوارد في المادة الثانية: «مبادئ الشريعة الإسلامية تشمل أدلتها الكلية وقواعدها الأصولية الفقهية، ومصادرها المعتبرة في مذاهب أهل السنة والجماعة». (36)
أثار إدخال هاتين المادتين في الدستور بسبب ضغط حزب النور مخاوف مبررة لدى القوى العلمانية حول نية الحزب الاعتماد على تفسير أكثر حرفية من السائد للشريعة وفقا للدستور الجديد. وكانت تلك - بدون شك - نية حزب النور. ولكن هناك بعدا آخر لهذه المسألة أيضا. لأنه حتى صياغة المادة الثانية نفسها يمكنها - بوجود قوة سلفية كافية في المجلس التشريعي - أن تستخدم لإدخال تشريعات إسلامية صارمة كالحدود ، بما في ذلك قطع أيدي السارقين وحظر الخمور. وبالتالي، يجب أن يُنظر إلى إصرار السلفيين على المادتين الـ4 والـ219 بوصفه يعكس أيضا حاجة السلفيين لتمييز أنفسهم بصفتهم «أكثر الملتزمين بالإسلام» مقارنة بمنافسهم على أصوات الناخبين الدينية: الإخوان المسلمين.
براغماتية سلفية مدهشة:
برهامي يجيز دفع الفائدة على قرض صندوق النقد الدولي!!
وبطرائق أخرى، أدى الضغط على الحزب لاستيعاب الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي للبلد لنتائج مدهشة. فعلى سبيل المثال، تعرض نائب رئيس الدعوة السلفية ياسر برهامي في سبتمبر 2012 ، لانتقاد من قبل العديد من زملائه السلفيين بعدما أعطى موافقته لجهود الحكومة المصرية في التفاوض للحصول على قرض ?ربوي? من صندوق النقد الدولي (IMF). لقد صُدِمَ كثير من السلفيين لأن برهامي، رمز الاستقامة والتقوى الصارمة، قَبِلَ أن تدفع الدولة المصرية الفائدة التي يعتبرها المسلمون الأتقياء «الربا» المحرم بنص القرآن. وكانت حجة برهامي هو أن انخفاض سعر الفائدة ( أقل من 2 في المئة) كان يعني في واقع الأمر أن الفائدة كانت مجرد تعويض لصندوق النقد الدولي عن تكاليف تسيير المعاملات(*)، ولذلك – يقول برهامي - لا يوجد ربا في العملية. ولكن مهما كانت الحجة الفعلية، فهذه فقط واحدة من كثير من الحالات التي تثبت حدوث تحول كبير في الخطاب والممارسة السلفية نتيجة لقرار السلفيين دخول حلبة السياسة.
وبينما قد يكون التمسك بالمبادئ الدينية النقية ممكنا في مجال الوعظ الديني، إلا أن دخول السياسة وتحقيق نتائج أثناء ممارستها هو في الغالب مثل مسألة أن تختار أي جانب من يدك سيتسخ. لقد أصبحت المعضلة السلفية واضحة بما فيه الكفاية في الانتخابات الرئاسية المصرية في مايو 2012 التي كشفت قلة خبرة السلفيين السياسية. لقد كان هناك في البداية حماس سلفي كبير لترشيح حازم أبو إسماعيل. ولكن لأسباب معظمها يعود للتنافس السلفي الداخلي، لم يرد حزب النور أن يدعمه ما دعا الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق لانتقادهم بقسوة من مقره في الكويت. وحتى بعد استبعاد أبو إسماعيل رسميا من الترشح، لم تصبح القضية سهلة للسلفيين. لم يبق أي مرشح سلفي يتمتع بأي فرصة واقعية للفوز. ورشح حزب الإصالة السلفي الصغير الدبلوماسي عبد الله الأشعل ولكن هذا الدبلوماسي السابق كانت ميوله قومية أكثر منها إسلامية ولم يكن له أي تأثير حقيقي حيث خصل في النهاية على 0.05% من الأصوات في الجولة الأولى. وكان هناك الآن اثنان من المرشحين الإسلامويين البارزين وكلاهما من خلفية إخوانية: محمد مرسي، المرشح الرسمي للإخوان وحزب الحرية والعدالة. والآخر عبد المنعم أبو الفتوح. أبو الفتوح كان قياديا لفترة طويلة في جماعة الإخوان المسلمين، ولكنه طرد ?رسميا? من الجماعة في ربيع عام 2011 بعدما أعلن نيته الترشح للرئاسة مخالفا آنذاك الخط الرسمي للإخوان بعدم تقديم مرشح للرئاسة. وحاول أبو الفتوح الآن ، الذي كان قد برز كممثل للخط الاصلاحي أكثر ليبرالية داخل الإخوان، وضع نفسه بأنه جسر بين الإسلامويين من جهة والقوميين واليساريين من جهة أخرى.
وفي ضوء ذلك، فقد حدثت مفاجأة عندما أعلن حزب النور دعمه لأبي الفتوح في الانتخابات. في البداية أبدى مشايخ الدعوة السلفية تحفظات، ولكن بعد اجتماع مع أبو الفتوح في الإسكندرية، وافقوا على دعمه. لقد بدا ذلك كلغز محير. فنظرا لأن السلفيين في العادة ينتقدون الإخوان المسلمين لرخاوتهم الدينية ومرونتهم تجاه المسيحيين والعلمانيين، فكيف يمكن أن يفضلوا ليبرو-إسلامي كأبو الفتوح بدلا من الأكثر تشددا ومحافظة بوضوح محمد مرسي؟! الجواب هو أن السلفيين كرهوا أن تتركز جميع السلطات في أيدي ?منافسيهم? الإخوان.
ثم اندلع صراع داخلي على قيادة حزب النور، حيث اختلف أول رئيس للحزب عماد عبد الغفور (برغماتي) مع الشيخ ياسر برهامي (متشدد) المذكور آنفا وكشف هذا النزاع جانب آخر لتكلفة دخول السلفيين معترك السياسة. وفي سبتمبر 2012، تم تعليق رئاسة عبد الغفور للحزب حتى تمت إعادته في أكتوبر بعد اجتماع مصالحة بين الفصائل المتنازعة داخل الحزب. ولكن استمر التوتر واستقال عبد الغفور في ديسمبر 2012 وترك الحزب، وتبعه عدد كبير من الأعضاء البارزين. وشكل المنشقون «حزب الوطن» في يناير عام 2013. وتولى يونس مخيون منصب رئيس حزب النور. ومهما كانت أسباب التوترات السياسية والشخصية المتعلقة بتلك الحادثة إلا أن النزاع وقع علنا وغطته وسائل الإعلام بالكامل وجادل كل فصيل حول قضيته على أساس المبادئ الديمقراطية. وهذه الممارسة تختلف تماما عن الخطاب السلفي التقليدي، والذي تُحصد القيادة فيه عبر مستوى العلم الديني والالتزام التقوي والكاريزما المتوفرة. وفي الواقع، فإن التوتر بين نمط عمل برغماتي سياسي (يمثله عبد الغفور) من جهة والنمط التقليدي من السلفية (ممثلا في برهامي وقيادات الدعوة السلفية) من جهة أخرى كان هو جوهر النزاع. فقبل اندلاع النزاع علانية قامت مجموعة من أنصار عبد الغفور بتشكيل «جبهة إصلاح حزب النور» وطالبوا بفصل واضح للحزب عن جمعية الدعوة السلفية.
تمثل السلفية تهجين مثير للاهتمام عندما يتعلق الأمر بالعلاقة بين المؤمنين العاديين ورجال الدين الخبراء والعلماء. تُظهر الحركات الإسلاموية بشكل عام، وليس فقط كما يُعبر عنها من خلال حركة الإخوان المسلمين، نوع مختلف من القيادة الدينية الجديدة. فالشخصيات المهيمنة على تنظيماتهم ليست من فئة العلماء المتعلمين في الكليات الدينية التقليدية، ولكن أطباء ومهندسين ومعلمين. يلعب العلماء في التيار السلفي دورا أكبر بكثير، وذلك منطقي لأن الانتقاد المستمر من السلفيين ضد الإخوان هو إهمال العقيدة الدينية لصالح تركيز مبالغ فيه على السياسة. ولكن الصراع بين القادة السياسيين والدينيين داخل حزب النور لا ينطبق عليه بالضرورة هذا التقسيم لأن العديد من مشايخ الدعوة السلفية (وتيارات سلفية مماثلة ف ي بلدان أخرى) ليسوا علماء دين بل بالأحرى دعاة. ياسر برهامي هو طبيب بشري وزعيم حزب النور الجديد يونس مخيون وعضو مجلس إدارة الدعوة السلفية هو طبيب أسنان، بالرغم من أنهما تعلما لاحقا الشريعة في الأزهر. (39)
ضريبة فادحة للمشاركة السياسية السلفية
وأخيرا، فإن مجرد قبول السلفيون بفكرة المنافسة في الساحة السياسية مع أحزاب علمانية ومع أحزاب دينية بديلة وحتى فيما بينهم (أي الأحزاب السلفية) في اللعبة الديمقراطية يؤدي لا محالة إلى «نسبوية» (Relativization) زعمهم بامتلاك الشرعية الإسلامية الحقيقية الوحيدة(**).
يتبع
** ** **
هوامش المترجم:
(*) أي ما اصطلح على تسميته في المعاملات التجارية بـ «رسم خدمة» (Service Charge). (العيسى)
(**) أي أن مجرد دخول الانتخابات مع منافسين آخرين يشكل اعتراف بمنافسيهم وخاصة العلمانيين ما يقوض زعمهم بأنهم يمتلكون الحقيقة الدينية المطلقة. (العيسى)
ترجمة وتعليق/ د. حمد العيسى - الدار البيضاء
hamad.aleisa@gmail.com