المجموعة الأولى بعد أكثر من خمس وعشرين سنة من مخاضات القصائد يطل بها الشاعر عبدالعزيز عبدالرحمن أبو لسة، ليعلن بداية القريض الذي يتوهج كجمر القرض ويظل حيا برغم الرماد من الباحة ذاتها، وإن كان أعلنها شعراء أصولهم من الباحة يعيشون خارجها...
كان من المفترض أن يأخذ أبو لسة مكانته بين شعراء موجة الحداثة فهو لا يمل من الاحتفاء بالثبيتي الذي نجد نفسه أحيانا في هذه المجموعة ما بين قصيدة وأخرى، وقد كان معاصرا لتلك الموجة وهو من الذين اكتووا بنار الصحوة مبكرا فآثر العزلة حتى ظهر فجأة كجبل من جبال السراة وارتفع حتى باتت قمته واضحة للمدلجين وللسارين وللأنيقين
عبدالعزيز أبو لسة الشاعر الأنيق والإداري الوحيد الذي تدخل مكتبه فتجد على طاولته ديوانا في طرفها ورواية في طرفها الآخر وكتابا فلسفيا في الوسط.. أبو لسة شاعر يدهشك بكمية الجرأة وكمية التميز في قصيدته المعتقة.. وأبولسة لمن قرب منه يفيض إنسانية وروعة.
جاءت مجموعته الشعرية في ما ينيف على تسعين صفحة كل صفحة تحتوي على بتلات من الزهور ومن العطور ومن حقول الجبال التي تعقد صفقاتها ومواعيدها الغرامية في مقهى السماء مع الغيمات والمطر والبرق والرعد
من قراءة أولى لهذه المجموعة فإن ما يميزها هو الدخول في أعماق البيئة الجبلية والحوار مع كل شيء فيها، كما يتميز أبو لسة بالاحتفاء بإعادة ترتيب التفاصيل الصغيرة ثم بعثرتها في صورة تزيدها ألقا وجمالا رائقا وإن كنت على وجه الإجمال لا أحبذ بعض آثار البدايات في قصائده إضافة إلى ظهور نفس الثبيتي أحيانا في قصائد أخرى والثبيتي كان مشروعا لم يكتمل والبقاء في مداره لا يضيف للقصيدة ما تلف به خصرها..
ومع ذلك فعبدالعزيز أبولسة، وخالد جمعان، وعبدالله الهمل هؤلاء الثلاثة فقط هم الذين أنجبتهم الباحة من داخلها وكتبوا الشعر في أحضانها... وإن كان الشعراء المعروفين الذين ترجع أصولهم إلى الباحة لا تخلو قصائدهم من التعلق بجبال الباحة وجمالها إلا أن هؤلاء الثلاثة لم يغادروها إلى غيرها استثني خالد جمعان الذي غادر الباحة بعد أن نضج شعرياً..
ويظل لكل واحد تميزه ويظل أبولسة أكثرهم أناقة شعرية، وأكثرهم عمقا، وأكثرهم قراءة..
سأختار قصيدة لأعرضها لكم من ديوانه، وأخرى (لأتقارأ) معها
النص الأول وهو الذي عنون به المجموعة (أول القمح آخر العنب)
جمعت ظل عيوني غير ما جمعوا
وقلت كل ورودي غير ما سمعوا
سكبت ماء قناديلي وقافيتي
خفضت سقف حكاياتي وقد رفعوا
يا أنت يا شهقة زرقاء تلسعني
ياجمرة في رماد الروح تصطرع
على هوى «حنطتي» تمتد أغنيتي
على رصيف بكانا سوف نقترع
يا ماء هوّ على طيني وساقيتي
فلم يعد في حنايا «القضب» متسع
ولم يعد «فلجي» عرقا ألوذ به
من الهجير ولا وزري به أضع
يا ماء قطر هنيهاتي وخذ بيدي
واسلك بي الحجر الناري ينقطع
يا ماء مرّ على ملحي، على قلقي
على مزاجك ناموس الهوى أضع
جمعت، قلت، كسرت اليوم محبرتي
أحرقت كراستي السوداء ما اقتنعوا
قرأت فتنة كرسيين في غسقي
وحول كعبتي البيضاء قد ركعوا
تشهدوا بعبير الله ما فتروا
تطهروا من مخاض التيه ثم سعوا
على مزاجك قل لليل في صلف
اهجع مجانين هذا الليل قد هجعوا
يا ماء تغريبة أخرى إلى كبدي
وهاتها في ملذات الدنا جُرُع
نسيت يا خربشات النمل آنيتي
والطير تأكل من رأسي، أما شبعوا
نسيت «صاعي» نسيت «الحوت» أين أنا
يا بحر يا جبل الطورين يا هلع
يا عارفا بكلام الروح يا قمرا
تخضر عيناه إن أعطوا وإن منعوا
يا أول القمح يا حلما يسابقني
جوعي إليه وزغب في الضلوع رعوا
خلعت عنك نبيذ الحق سوسنة
وآخر العنب المحروق ينخلع
لي فيك يا فتنتي قلب ومنقلب
لي فيك دار وأوتار ومجتمع
أما النص الآخر فهي قصيدة.. « أبي... قال لي»
أبي قال لي: لا تفرط بأرضك
تناول عشاءك بعد صلاة المغيب. ثم صل العشاء... ونم
أبي قال لي : إذا أذن الفجر.. قم
توكل على الله.. قم
فعصفورة الحقل قامت.. وصلت
راحت تفتش عنك.. وصلت
راحت تغرد رغم الثلوج ورغم المطر
أبي يقرأ الوحي في كل فجر
رويداً.. رويداً يرتل آي الكتاب الحكيم
يقول : ويل لمن طفف الكيل
ويل لمن يهمز المؤمنين
ويل لمن يبخس الناس أشياءهم
ويحفر للبائسين الحفر
أبي عندما يجد الوقت :
يسمع صوت العرب، وبسمع لندن
وينصت ليلا بوح نجوم القرى للقمر
أبي في المقيل يداعبنا ويقول :
« أنا فدا أولادي الصغار
ذا علمهم يلذ لي
واحد قطع ظهر الحمار والثاني قعبص بالطلي”
أبي كان شيئا جميلا
وأمي أجمل منه وأبهر
أبي كان شيئا جميلا ً
أحب لآخر لحظة، ومات لآخر لحظة،
وعلقت صورته فوق أغنية من سفر
هذه القصيدة هي نص النصوص لشاعرنا أبي لسة وهي مفتاح قصائده إنها « الأب، والأرض، وآذان الفجر، وعصفورة الحقل، وصوت العرب، ولندن، الأم «
هذه الكلمات هي مفتاح الرسم الذي يفسر لنا كيف يشتبك أبو لسة مع القصائد وكيف يجرحها ثم يداوي جراحها
في هذه القصيدة تحمل دلالة الأب الأصل ولكنه أصل في مقابل الأولاد الصغار الذي جعلهم في نص ترقيصي من لهجة أهل الباحة فيه تحبب وفيه نوع من الدعابة ونوع من الإشارة إلى أنهم صغار لا يفهمون ؛ ولذا جاء في النص أن أبي كان شيئا جميلا ولكنه يشير إلى الأم المضحية الصامتة التي تشير إلى الأصل أيضا ويسكت عنها إلا في كلمتين أنها أجمل من الأب وأبهر، ولكنه يرجع مرة أخرى إلى كون الأب شيئا جميلا و قد عرف الحب لآخر لحظة ومات لآخر لحظة هل كان ميتا بالحب هل أنه عاش ميتا أو مات حيا أو أن حياته ابتدأت في لحظة موته ؟ وهل صورته تغني عنه وما الأغنية التي تشير إلى السفر هل تعني أنه غاب وسيعود.. المهم أن الأب كما يفرض سلطته وصى بعدم التفريط بالأرض، ووصى بعدم التوقف عن الحياة كما عصفورة الحقل التي تستيقظ مبكرا مع الشمس لتبحث عن الحياة، وأن الأب كان لا يفتأ يقرأ القرآن ويتلو الويل لمن كان غير إنسان مع الإنسان ولكنه لا يفعل شيئا سوى السماع لصوت العرب وللندن عند الفراغ من التلاوة.. إنه توق للخروج إلى العالم لفهم قيمة الذات ولنشدان مزيد من الحرية التي تشبه أحلام الصغار ولعبهم وهزلهم، وبرغم كل شيء يبقى الأب شيئا جميلا لأنه أوصى بالأرض ولكن الأم التي قد تشير إلى الأرض أيضا هي الأجمل..
من توزع هذه القصيدة ما بين الأب والحقل والقرآن ولندن وصوت العرب والأغنية المسافرة والأم الأجمل ندرك أنها نص مفتوح على قراءات متعددة تمثل الذات والأصل والمستقبل الذي يصبح أغنية من سفر « أبي قال لي : لا تفرط بأرضك»
- د. جمعان بن عبدالكريم