د. محمد عبدالله العوين
من النادر في هذا العصر أن نجد عالما موسوعيا له في كل علم أو فن اجتهاد وبحث وإضافة وإبداع.
مع أن هذا الزمن الذي نعيشه يتيح لمحب الاطلاع والشغوف بالقراء في شتى العلوم والمعارف سبلا ميسرة سهلة للوصول إلى مبتغاه مهما كان المصدر نائيا وبعيدا، ومهما كانت المسألة عويصة شاقة؛ فإن أدوات البحث التقنية الحديثة في المكتبات العالمية وغيرها من خزانات الكتب والمعلومات في أي مكان من العالم وبأية لغة كانت ستقرب البعيد وتيسر ما كان شاقا وعسيرا.
توافرت أدوات البحث الشامل ولم يزدد المثقف أو العالم الشمولي إلا بأعداد قليلة لا تتفق وطبيعة العصر؛ بينما اتسم تاريخنا العربي والإسلامي في أزمنة كان البحث فيها عن المعلومة وتصيد المعرفة في بطون المراجع التي قد لا تكون متيسرة في مكان واحد أمرا بالغ المشقة والعسر؛ إلا أن نفرا غير قليل من علمائنا وباحثينا طوال ما يقرب من عشرة قرون من تاريخنا العربي والإسلامي قدموا للمكتبة العربية آلاف الكتب في شتى المعارف والفنون، ولا يقتصر ما قدمه أي عالم أو كاتب على ما يجيده وما تميز فيه وعرف به؛ بل ذهب يضرب في آفاق المعرفة يمنة ويسرة، يشرق ويغرب ويكتب في كل ما يعن له أو ما يرى أنه سيجيب من خلال ما يكتبه أو يجمعه أو يختصره ويذيل عليه ويعيد تقديمه إلى الناس علما نافعا ورأيا ناجعا وثقافة مفيدة تنفع الأمة.
وقبل أن أشير إلى تميز شيخنا وأستاذنا أبو عبد الرحمن بن عقيل الظاهري بهذه السمة التراثية التي أشبه فيها علماءنا الأفذاذ وجدد شيئا عطرا نفيسا من سيرهم؛ أذكر بمن اقتدى بهم واتبع منهجهم في الكتابة والتأليف ؛ حتى يمكن أن نعده واحدا من أولئك الذين عاشوا تلك العصور العربية الزاهية لا واحدا من أبناء عصرنا الذين يميلون إلى التخصص في علم أو فن واحد لا يكادون يتجاوزنه إلى غيره إلا في حالات قليلة نادرة.
احتذى ابن عقيل بأبي عمرو عثمان بن بحر الجاحظ الذي كتب في الفلسفة وعلم الكلام والحيوان والآداب واللغة وطبقات المجتمع وغير ذلك ما يربو على خمسين مؤلفا ما بين رسالة وكتاب ، لعل أشهرها «الحيوان» والبيان والتبيين» وعشرات الرسائل في مختلف القضايا الاجتماعية والإنسانية؛ فهو ناثر وفيلسوف وباحث في علم الاجتماع ومتحدث في علم الكلام، ومثله أبو حيان التوحيدي صاحب « الإمتاع والمؤانسة « والإمام الطبري الذي كتب في التفسير والتاريخ وآداب القضاة وآداب النفوس وغير ذلك ما يمكن أن يعد بأنه صاحب أكبر مكتبة في التأليف تتناول شتى أنواع المعارف، والماوردي صاحب كتاب «الأحكام السلطانية» الذي تنوعت مؤلفاته بين تفسير القرآن والفقه والسياسة وآداب الدنيا والدين، وجلال الدين السيوطي العالم الجامع المحقق الذي اختصر مئات المؤلفات لغيره وأعاد صياغتها، وكتب في ما عن له وما عاشه أو شعر بأن الناس يتطلعون إلى البحث عن إجابة شافية فيه؛ بحيث وصلت مؤلفاته إلى 576 كتابا ورسالة كما ذكر ذلك الحاجي خليفة في كتابه «كشف الظنون» لعل أبرزها ما كتبه في التفسير والمعرب في القرآن والفقه والحديث والتاريخ والطبقات والمعاني والبيان والطب، حتى ألف في المأكولات والمطعومات كما فعل في كتابه «منهل اللطايف في الكنافة والقطابف» وكان يحفظ مائتي ألف حديث كما قال عن نفسه.
أما علي بن أحمد بن سعيد الظاهري شيخ أبي عبد الرحمن بن عقيل ؛ فهو أستاذه وقدوته في المذهب وفي الموسوعية وفي التنوع المثري وفي غزارة التأليف ولطافة المأخذ في مختلف المعارف والفنون؛ ولا غرو في ذلك ؛ فإن ابن عقيل لم يكن مفتونا باتجاه شيخه الفقهي فحسب؛ بل كان أشد إعجابا وفتنة بشخصيته الأدبية والثقافية الشاملة المتفردة المتميزة بمنهج وأسلوب ورؤية جلية في كل ما ذهب إليه من آراء أو اجتهد فيه من أحكام ؛ فالتأسي ليس بـ»الظاهرية» رؤية فقهية للأحكام وموقفا فلسفيا من تفسير النصوص بعيدا عن الاستسلام للاجتهاد أو التقليد أو القياس فحسب؛ بل إن تأسي ابن عقيل بشيخه ابن حزم لم يكن منهجا في الفقه لا يتفق مع الأربعة؛ بل رؤية ومنهجا وطريقة وأسلوب جدل واعتزاز بالذات إلى حد المواجهة العنيفة أحيانا مع الخصوم..
يتبع