عماد بن محمد العباد
«هنا لندن.. سيداتي سادتي نحن نذيع اليوم من لندن باللغة العربية لأول مرة في التاريخ»، بهذه العبارة افتتح كمال سرور أول نشرة موجهة للمستمع العربي من هيئة الإذاعة البريطانية. كان ذلك عام 1938، أي قبل 78 عاماً، ومنذ ذلك الوقت شكلت تلك الإذاعة مصدراً أخبارياً مهماً في حياة المتلقي العربي، وكلنا يتذكر قبل أكثر من عقدين من الزمن أجراس ساعة «بيغ بين» القادم عبر أثير الراديو متبوعاً بصوت مذيع بي بي سي الأجش «هنا لندن». كان كبار السن يضبطون بكل ثقة ساعاتهم على ذلك الجرس ويستمعون بعناية لما يقوله المذيع باعتباره مصدراً صحيحاً للخبر، لأن تلك المحطة كانت ببساطة تعمل بحسب قواعد هيئة الإذاعة البريطانية الصارمة والتي تحتم ملاحقة الخبر أولاً بأول ونشره بكل حيادية وتجرد.
لطالما كانت البي بي سي تفاخر بأنها لا تتلقى تمويلاً من الحكومة، إذ تأتي ميزانيتها من دافع الضرائب البريطاني، ومصدر ذلك الفخر هو أنها تتمتع بحيادية تامة، تلك الحيادية التي تعتبر كلمة الشرف التي تتباهى بها أي وسيلة إعلامية مرموقة. مرت سنوات طويلة على هذه الهيئة العجوز، لكن ذلك الوسام الذي لطالما فأخرت به اعتراه الاهتراء، وبدأ الهمز واللمز بين الإعلاميين بل وحتى بين العاملين في داخل المحطة حول اختلال الطرح الإعلامي في البي بي سي. وتراوحت التعليلات بين ضعف الإدارة المركزية وبين ظهور جيل إعلامي جديد مؤدلج ومسيس يدين لأيديولوجيته بالولاء أكثر مما يدين لشرف المهنة.
في شهر يونيو من العام 2012 اعترفت البي بي سي بما وصفته بـ»أخطاء فادحة» اعترت تغطيتها لأحداث الربيع العربي، جاء ذلك في تقرير من 89 صفحة خصصت 9 صفحات منه عن تغطيتها لأحداث البحرين، وكيف أن التغطية الإعلامية كانت متحيزة للمتظاهرين وعكست رأي طرف واحد في النزاع وتجاهلت مساعي الحكومة البحرينية في تهدئة الأوضاع وفتح حوار وطني مع المتظاهرين.
ورغم مرور أربع سنوات على ذلك التقرير إلا أن أوضاع الهفوات الإعلامية الكارثية تتزايد في البي بي سي خصوصاً في تلك الوسائل التابعة لها والمتحدثة بغير اللغة الإنجليزية كما حدث أخيراً من انتقادات حادة لقناة بي بي سي العربية التي وصلت إلى مستويات مخجلة من التحيز واعتلال المصداقية حتى أن أكثر المتلقين إحساناً للظن وأقلهم تصديقاً لنظرية المؤامرة بات يشك في نويا الصحفيين العاملين في هذه القناة وتوجهاتهم. ففي تقرير نشرته بي بي سي عربية على موقعها حمل عنوان «المثلث السعودي الأمريكي الإيراني» أظهر كاتب التقرير تحيزاً واضحاً لإيران بلغة تفتقر تماماً للحيادية. إذ يسمي نمر النمر بـ»رجل الدين الشيخ المعارض»، مصرحاً بأن استعجال السعودية في إعدامه أكد بأنها تنوي رفض أي سياسة تصالحية مع إيران! كما شبه التقرير السعوديين باليمين الإسرائيلي الذي يرى بأن أي مشكلة في المنطقة سببها إيران. فيما اتهم السعودية بمحاولة كبح جماح إيران وتقليص دورها «العادل» كقوة أقليمية في المنطقة، في حين وصف السياسة الإقليمية السعودية بـ»جنون العظمة».
هذا التقرير السطحي المليء بالمغالطات والتجني، كتب بحبر إيراني ويشي بالأزمة المهنية التي تعيشها بي بي سي العربية التي لا تعاني من ضعف مهني وحسب بل وتعاني من تحزبات وولاء لأجندات جعل صحفييها يذبحون أعز ما يملكون، وهو الحياد لأجل خدمة الجهات السياسية التي تحركهم.
بي بي سي الأم مطالبة بمراجعة شاملة للمحتوى الذي تبثه قناتها العربية وتنشره في موقعها، فهذه القناة العربية التي أصبحت تعرج متكئة على ثقة الناس السابقة في القناة البريطانية بحاجة إلى إصلاح عاجل. هذا بطبيعة الحال إذا كانت بي بي سي الأم جادة في أن تحافظ على سمعة الأحرف الذهبية الثلاثة التي بنتها خلال أكثر من تسعين عاماً، إذ ليس هنالك أصعب من أن تعيد ثقة الناس فيك بعد أن تفقدها!