د. رضا محمد عريضة ">
لا يختلف اثنان على أن مملكتي النمل والنحل من أدق الممالك الحشرية في تنظيماتها وأعمالها، حيث تتنوع فيهما الوظائف وتؤدى جميعها بإتقان رائع يعجز البشر غالباً عن اتباع مثله، بالرغم مما أوتوا من العقل الراقي والإدراك العالي.
وإذا أردنا تصنيف العقل العربي تحت أي مملكة من المملكتين، لا يسع المنصف إلا أن يصنفه ضمن مملكة النمل!! ولماذا النمل وليس النحل؟.. الإجابة أن الفارق بين المملكتين في المنتج كبير، فالنمل مستهلك لما ينتجه الآخرون ولا ينتج شيئاً يستفاد منه، وفي كثير من الأحيان يكون مخرباً.. فالنمل يسعى إلى جمع غذائه وتوظيف إمكاناته في الالتهام والتخزين والحفاظ على المخزون لحالة البيات الشتوي في أعماق الأرض وفق عمل منظم دون أن يقوم بأي خطوة إيجابية بإنتاج وتوفير ما يحتاجه دون الاعتماد على مخرجات الآخرين.
أما النحل فمملكة (الإبداع) منتجة تفيد وتستفيد.. فالنحل ينطلق إلى كل مكان يجمع الرحيق من شتى أنواع الزهور ويحوله إلى عسل نأكله. والمدقق هنا يجد أن النحل لم يكتف بجمع الرحيق فقط، بل قام بتصنيعه بكميات كبيرة قد تفيض وتزيد عن احتياجاته بدليل أننا نأكل معه عسلاً شهياً جميلاً شافياً -بإذن الله تعالى-.
وهذا حال الشعوب المتقدمة الواعية لما تفعله دائماً في حالة استنفار للهمم لمزيد من التقدم فتعظم من قيمة العمل والسعي للتجديد والابتكار.. ولا يغيب عن ذهننا اليابان المذهلة في إبداعاتها في شتى مناحي الحياة مما حدا بالبعض أن يطلق عليها كوكب اليابان ويصف شعبها بالشعب المبدع الذي جاء ويعيش في كوكب آخر. وما زالت مستمرة في حالة النحل المبدع.
إن السيادة العربية الإسلامية للعالم في عصر ضحى الإسلام (العصر العباسي الأول) ما كانت من فراغ أبداً، فقد نشأ فكر عربي جديد في جميع مجالات الحياة والعلوم والفنون، حيث كانت المرحلة النحلية في أقوى حالاتها.
والمتأمل للنهضة الأوروبية الحديثة يجد أنها مرت بالمرحلتين (النملية - والنحلية) ففي المرحلة النملية جمعت أوروبا نتاج العقل البشري من ثقافات اليونان، الرومان، العرب، وأدخلته معامل العقول الأوروبية فكانت نهضتها العلمية التي أسست للنهضة الصناعية والزراعية والأدبية... إلخ، وسيطرت على العالم شرقاً وغرباً، وهو ما يمثل نتاج المرحلة النحلية، أي مرحلة الإبداع الأوروبي التي لم تتوقف حتي الآن وامتدت تأثيراتها إلى غرب العالم (الولايات المتحدة الأمريكية - وكندا) وإلى شرق العالم، حيث النهضة اليابانية التي تلتها نهضة النمور الآسيوية في شرق وجنوب شرق آسيا مثل تايوان وكوريا الجنوبية وماليزيا وسنغافورة وانطلاق المارد الأصفر (الصين) يغزو العالم بإنتاجه المبدع الذي يناسب جميع القوى الشرائية في كل بقاع العالم فقيرة كانت أو ثرية.
والمؤلم أن يظل العقل العربي واقفاً عند المرحلة النملية، ما زال عاجزاً عن الانطلاق نحو التجديد والابتكار، لأن صناعته توقفت عند حد التلقين فأصبح مستهلكاً لمنتجات الآخر متماهياً بقيم الآخر وطرائقه الاستهلاكية فيما يعرف بمحاكاة الآخر، أيضاً أصبح متلقياً للمؤثرات ولا يستطيع إصدارها لأن وسائل النشر والتقنية كلها في خدمة الثقافة الغربية الغازية للعقل العربي المهيأ للتلقي والتوحد مع ثقافة وقيم مجتمعات الكوكاكولا، والهامبورجر،... إلخ، ليظل قابعاً في المرحلة النملية.
مما سبق وبقدر كبير من الثقة يمكن القول إننا لابد أن نعيد تحليل مواطن الخلل والإصابة التي تعيق انطلاق العقل العربي وتقدمه من خلال إعادة تشكيل مركز الرؤية لدى الإنسان العربي ودراسة الإصابات التي لحقت به. والتخطيط للخروج به من الأزمة وتحقيق التحرر العقلي وتدعيم الالتزام بالقيم المستمدة من عقيدته السامية.. فلا خلاف على أن المتغيرات من حولنا تتكاثر، نتيجة لما يوجد من المستجدات التكنولوجية كل يوم من قضايا جديدة ومعقدة سواء كانت اجتماعية أو سياسية أو أخلاقية، حيث تتسارع التبدلات، وتتشكل الولاءات الجديدة، وقد يكون من المفيد في مواجهة كل ذلك هو كشف الخلل في منظومة القيم ومحاولة إصلاحها.
ولأن الشباب هو العنصر الهام في كل تقدم وازدهار بما يحمله من إمكانات وقدرات وخيال خصب تجعله أشد حساسية لما يحدث في داخله من تغيرات عضوية ونفسية وفكرية وما يحدث في واقعه من تغيرات حضارية واجتماعية وسياسية، فإنه من الضروري أن تسعى كل مؤسسات التنشئة المستمرة إلى تأصيل القيم المعرفية (النظرية) لدى شباب الجامعة وما قبلها، أمل المستقبل وقوة الدفع لاستمرار المجتمع وتطوره.
- أستاذ علم النفس الاجتماعي المساعد جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية