لا يمكن عند الحديث عن اللغة وتعليمها كلغة ثانية أو أجنبية، أن يتجاوز الذهن مقولة كثيرة التداول ألا وهي أنّ «اللغة بوابة الثقافة». وعلى الرغم من شيوع هذه العبارة واتساع نطاق تداولها لدى المتخصصين وغير المتخصصين، إلا أنها ما زالت تمثل حقيقة تستحق التأمل والبحث والاسترجاع. فهي لم تتحول مع كل هذا الزخم الاستخدامي إلى عبارة فاترة أو قليلة المحصول بل بقيت مليئة بالحيوية والتألق. لم تتحول - كما هو الشأن في العبارات المماثلة الأخرى - إلى فكرة مستهلكة أو لمحة ساكنة مستعصية على الفعل والتفعيل. فالعالم اليوم يعيش أكثر من أي وقت مضى حقبة من التحفز باتجاه التواصل والاتصال والتحالف والحوار والتكتل والاستقطاب. ولم يعد التقوقع على الذات ممكناً ولا مقبولاً. بل أصبح ملء الفراغات الماثلة في قنوات التواصل ضرورة ملحة تقتضيها طبيعة العصر وما وصل إليه من تطور تقني مذهل في مجال الاتصالات، من شأنه أن يوسّع دائرة الانتماء والتقارب الإنساني إلى أبعد مدى ممكن.
إذن فلعله من المناسب ونحن نعيش احتفالية تعليم اللغة العربية لغير الناطقات باللغة العربية التي ترعاها جامعة الأميرة نورة، أن نعود مجدداً إلى هذه المقولة للتأكيد على أنّ اللغة هي بوابة الثقافة فعلاً وأنها الجسر الطبيعي للتماهي والتقارب مع الآخرين. هذا ما يقرره العلم وما تؤيده المشاهدات التاريخية والتحولات الاجتماعية الثقافية في العالم بأسره. ومن حسن حظنا في هذا البلد أن بوادر الاهتمام باللغة ونشرها قد بدأت منذ زمن بعيد من خلال المعاهد المتخصصة التي شهد لها الكثيرون بالسبق والتميز ليس من الناحية التاريخية فحسب، ولكن أيضاً من النواحي العلمية والأكاديمية التي جعلت من تجربة هذه المعاهد وخبرتها العملية والميدانية في المناهج وطرائق التعليم نموذجاً يحتذى ومسلكاً يجتذب أنظار المهتمين بهذا المجال المعرفي النادر.
ومع كل هذا الاعتزاز بما تم إنجازه في هذا المجال، فإن مواكبة المستجدات والتجاوب مع المتغيرات تجعلنا نتطلع إلى تحقيق المزيد، مما سيعود بالكثير من النفع المباشر وغير المباشر على الجامعات التي احتضنت هذا التوجه، وأيضاً على البلد ككل وعلى ثقافتنا العربية والإسلامية، بأمدائها الأوسع والأشمل. فالحكمة تقضي أن نقرأ الواقع بموضوعية وأن نستشرف المستقبل بوعي وتصميم، وأن نستثمر الطاقات في أوانها. فكم هو مفرح لنا أن نرى جامعة الأميرة نورة تحتضن برنامجاً نوعياً متخصصاً لتعليم اللغة العربية للطالبات من غير الناطقات بها، مضيفة بذلك مصدراً جديداً ينضاف إلى ما سبق من معاهد تُعدّ بكل تجرد من مصادر الخبرة الرصينة التي يُرجع إليها في شؤون اللغة وتعليمها. كما أنّ هذا سيزيد بكل تأكيد أعداد الخريجين الذين تعمقوا في لغتنا العربية وثقافتها ليعودوا إلى بلدانهم سفراء حقيقيين وحلفاء مأمولين لهذا البلد ولثقافته وأهله.
هذه لمحة موجزة عن آمال وتطلعات واسعة قلّما تغيب عن الذهن، وخاصة في مثل هذه المناسبات العلمية الهامة المتعلقة بتعليم اللغة العربية ونشرها. ونحن - مثلما أننا طامحون - أيضاً متفائلون بأن تتواصل المسيرة وترتقي بتعليم اللغة العربية للناطقين بغيرها، في ظل دعم المسؤولين عن التعليم في هذا البلد الذين يدركون أبعاد مثل هذه القضايا، ويتفهمون أهمية مواكبة العصر لتحقيق ما نصبو إليه من إصلاح وتحديث وتطوير للتعريف بهويتنا وثقافتنا على أفضل وجه.
ولنتذكر دائماً أن اللغة كما أنها مفتاح الثقافة، فإن معاهد تعليمها هي نوافذ مشرعة للتواصل والتفاعل مع كل العالم.
د. عيسى عودة الشريوفي - معهد اللغويات العربية - جامعة الملك سعود