عمر بن عبدالله بن مشاري المشاري ">
كثرة النعم والخيرات نحتاج معها إلى شكر الله؛ لتدوم, لا أن نسرف فيها أو نبذرها تبذيراً, ولعلكم رأيتم تلك المقاطع المرئية والصور التي توجع القلوب, وتضيِّق الصدور؛ لأفعالٍ لم نكن نتوقعها, هي قِمَّةٌ في الإسراف, ويزداد الأمر سوءً إذا كان مع الإسراف مفاخرةٌ وعُجبٌ, قال تعالى: {وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} قال السعدي -رحمه الله-: (والإسراف إما أن يكون بالزيادة على القدر الكافي والشره في المأكولات الذي يضر بالجسم، وإما أن يكون بزيادة الترفه والتنوع في المآكل والمشارب واللباس، وإما بتجاوز الحلال إلى الحرام, فإنَّ السرف يبغضه الله، ويضر بدن الإنسان ومعيشته، حتى إنَّه ربما أدَّت به الحال إلى أن يعجز عمَّا يجب عليه من النفقات، ففي هذه الآية الكريمة الأمر بتناول الأكل والشرب، والنهي عن تركهما، وعن الإسراف فيهما).
وكأن ذلك المسرف نال بصنيعه المحرَّمِ فعلاً يدعوه إلى ذيوع سمعته بين الناس, وأنَّه كريمٌ بفعله, أبيضٌ وجهه, فهل رأيتم جهلاً وإسرافاً أعظم من أن يُقدِّم ضيفاً واحداً على شاة (مفطَّح) وضيفٌ آخرٌ في ذات الوقت والمناسبة على شاةٍ أخرى, وثالثٌ على شاةٍ ثالثة, كلُّ واحدٍ له واحدةٌ, بصحنها المستقل, أيُّ سرَفٍ هذا, وأيُّ تبذيرٍ يكون, وهل هذا كرمٌ يُثنى على صاحبه, أم هو كما يقول العامة (مهايط)!! وكذلك صنيع أولئك الذين يقدِّمون حاشياً (بعيراً) يضعونه بكامله على صينيةٍ واحدةٍ, يجرُّها عددٌ من الرجال, أيُّ إسرافٍ وأيُّ تبذير هذا, وأيُّ عقولٌ ترى هذا كرماً؟!! إنَّ هذا والله جهلٌ وسفهٌ, وفيه عدم شكر للنعم التي مَنَّ الله بها علينا, وآخر يشقُّ كيس هيلٍ كبيرٍ أمام الضيوف فيتكبب على الأرض, وآخر يصبُّ على أيدي ضيوفه دهن عودٍ كما يصبُّ الماء, وهم يغسِّلون به أيديهم؟! ولا أعلم أيُّ جهل وسفهٍ بلغ بأولئك, وإلى أيِّ مدى وصل هذا التبذير (المهايط) الذي يدَّعون أنَّه من الكرم, فالكرم وأهله بريء من هؤلاء المسرفين.
إنَّ انتشار تلك المقاطع المرئيَّة, تُبيِّن مدى الإسراف والتبذير عند أقوام, فيجب أن يؤدبَ مُرتكبوها, وأنْ يحاسبوا, وأن يُنكرَ عليهم؛ لئلا يصدر ذلك منهم مرَّةً أخرى, والبعض يتساءل, أين دور هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في ذلك؟ عليهم أنْ يأخذوا على أيدي هؤلاء, ويرفعوا أمرهم إلى الجهات المسؤولة؛ ليحاسبوهم على سوءِ فعلتهم, وحبذا لو استحدثت رئاسة هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إدارةً أو قسماً مستقلاً يُعنى بمنكر الإسراف في الأطعمة وغيرها, ويستقبل بلاغاتٍ عن هذا الشأن, وأنْ يوضع له آليَّةٌ أو لوائح منظِّمة بالتنسيق مع الجهات ذات العلاقة, للحدِّ من هذا الأمر الخطير الذي هو نذير شرٍّ على المجتمع كافة.
وكذلك فإنَّ على كل مسلم إذا رأى من أخيه أو من قريبه أو من جاره أو من غيرهم, أنْ ينصحهم ويُذكِّرهم بالله تعالى, بأنْ يقتصدوا في أطعمة الولائم والمناسبات, ويقتصروا على الكفاية, قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «طعام الاثنين كافي الثلاثة، وطعام الثلاثة كافي الأربعة» قال النووي -رحمه الله- عند شرحه لهذا الحديث: «وفي رواية جابر: (طعام الواحد يكفي الاثنين وطعام الاثنين يكفي الأربعة وطعام الأربعة يكفي الثمانية) هذا فيه الحث على المواساة في الطعام, وأنَّه وإنْ كان قليلاً حصلت منه الكفاية المقصودة ووقعت فيه بركةٌ تعم الحاضرين عليه, والله أعلم».
إنَّ على من أراد إكرام ضيفه, أن يكرمه على قدْر الكفاية, ولا يزيد على الحاجة, فإنَّه مسؤول أمام الله تعالى عن كلِّ طعامٍ يبقى من الولائم والمناسبات.
ولا يعتذر معتذرٌ بأنَّ بقايا الطعام ستأخذه مستودعات الأطعمة, فإنَّ تلك المستودعات, لا تستطيع جمع جميع فوائض الأطعمة, وهي في الغالب لا تغطي إلا جزءً يسيراً من تلك الفوائض, قد لا تصل إلى عشرة في المائة منها, وتلك المستودعات جزء من العلاج لمن وقع في الإسراف, فزاد على حاجة ضيوفه, وليست العلاج الأصل لهذه المشكلة, فالحذر الحذر من الإسراف والتبذير في أطعمة الولائم والمناسبات, وعلى المرء أن يبدأ بنفسه, فيقوِّمها على طاعة الله في هذا الأمر, وغيره, وينهاها ويزجرها على الإسراف والتبذير إنْ دعته نفسه إلى ذلك باسم الكرم أو خشيةً من كلام الناس أنْ يقولوا صنع طعاماً قليلاً لا يكفي المدعوين, فإنَّ بعض الناس جُبلت قلوبُهم على حبِّ رؤية صنوف الأطعمة وكثرتها على مائدة الطعام, ولو لم يأكلوا منها إلا قليلاً.
ألم يرَ أولئك المسرفون المبذرون المجاعة التي حصلت في بعض المدن في سوريا, هلك بسببها أقوام, والمجاعة التي حصلت في بعض دول أفريقيا, ومات بسببها أقوام, وحروبٌ واضطراباتٌ في العراق والشام واليمن, فهل ثمة معتبِرٌ وهل ثمةَ متَّعظٌ, ثم ألم يكن آباؤنا يذهبون إلى العراق والشام والهند طلباً للرزق في وقتٍ كان الجوع وقلة ذات اليد يضرب بأطنابه في بلادنا؟!
ومن أراد استبقاء نعم الله عليه, فليحافظ عليها, ويُقدِّرها حقَّ قدرها, ويزِنَ نفسها معها على قدر ما يحتاج, بلا زيادة أو نقصان, وكما قيل في المثل العامي: المدبِّر في الدار خير من الحدَّار, بمعنى الذي يحسن تدبير مطعمه ومشربه ومصرَفه, خير من ذلك الذي يسافر طلباً للقمة العيش.
قال الشاعر:
دَبِّرِ الْعَيْشَ بِالْقَليلِ لَيَبْقَى
فَبَقَاءُ الْقَلِيلِ بِالتَّدْبِيرِ
لا تُبَذِّرْ وَإِنْ مَلَكْتَ كَثِيراً
فَزَوَالُ الْكَثِيرِ بِالتَّبْذِيرِ
إضاءة: من لم يتَّعظ بمواعظ القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة, ولم يتَّعظ بما يحصل في العالم الحالي من أحداثٍ, ولم يُقلع عن الإسراف في الأطعمة والأشربة, فمتى سيتَّعظ؟!
- خطيب جامع بلدة الداخلة في سدير