عُرف التاريخ الإنساني من خلال الإرث الحضاري الذي يتركه الإنسان على الأرض، والتي عادة ما تشكله الخامات المحيطة ببيئته وتعكس ما وصل إليه من تراث إنساني كان شاهدا على عصور مزدهرة بالعلوم والصناعات والفنون أسست لتلك الحضارات عبر قرون من الزمن، يقول أرنولد توينبي:»إن مواجهة الإنسان للتحديات الطبيعية والبيئية هي التي أنتجت الحضارة، وأن الفئة المبدعة في المجتمع هي التي تضطلع بمهمة صنع تلك الحضارات».
بارع، هو الاسم المختصر للبرنامج الوطني للحرف والصناعات اليدوية، تلك المبادرة الطموحة التي انطلقت من أروقة الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني بهدف تنمية هذا القطاع كرافد رئيس للاقتصاد الوطني ضمن إطار مؤسسي يساهم في توفير فرص العمل للمواطنين وبناء سوق محلي للمنتجات التقليدية القادرة على المنافسة والتسويق وفق منظومة متوازنة ومستدامة، وتحويلها إلى قطاع يساهم بفعالية في برامج التنمية الاقتصادية والاجتماعية بالمملكة من خلال إستراتيجية فاعلة.
في رأيي الشخصي أن «بارع» ورغم التحديات الكبيرة التي واجهها في بداية تأسيسه وسيواجهها في رحلته نحو تحقيق أهدافه الطموحة يعتبر من أهم القرارات التنموية التي تُعنى بإعادة الحياة لقطاع الحرف والمهن والصناعات التقليدية والذي غاب تماماً في حقبة زمنية اتجهت فيها التنمية القطاعية إلى « اقتصاديات مؤقتة « لم يكن لها دور رئيس في بناء الإنسان السعودي والاستثمار فيه، بل حولته إلى مستهلك لم يتمكن من ممارسة دور مثالي في بناء المدن السعودية.
قبل سنوات كنا في ورشة عمل عن دور المدن الثانوية (الأقل نمواً) في تحقيق التنمية العمرانية المتوازنة، وامتدت جدلية النقاش إلى المطالبة بربط مخصصات مشاريع وبرامج التنمية للمدن بمستوى ما تقدمه هذه المدن من مساهمة في الناتج المحلي، بل إن البعض طالب بإيقاف الخدمات عنها وإسقاطها من قائمة التنمية وتهجير سكانها إلى مدن أخرى أكثر إنتاجاً إذا ما استمرت على وتيرتها كمدن مستهلكة وغير منتجة، هذه الجدلية لم تكن إجحافاً بحق تلك المدن «الفقيرة اقتصاديا» ولكنها محاولة لتحقيق معادلة متوازنة بين المدخلات والمخرجات التنموية، ويأتي هنا السؤال الأكثر إلحاحاً، كيف يمكن تحقيق ذلك التوازن؟
الاستثمار في الإنسان السعودي - بمفهومه التطبيقي - لابد أن يكون محور التغيير في أسلوب إدارة التنمية، فكثير من أهداف ومرتكزات خطط التنمية الخمسية ذهبت أدراج الرياح ولم نتمكن من تحقيقها، لأن هذا الإنسان الموكل إليه هذه المهام لم يحظ بالتأهيل الكاف لتمكينه من ترجمة تلك الخطط إلى برامج ومشروعات تنفيذية، لقد فقدنا فرصة كبيرة في بدايات مبكرة لتأسيس قاعدة صلبة من السعوديين الماهرين والاستفادة منهم في بناء منظومة إنتاج محلية تؤسس لاقتصاديات مستدامة لمدننا ورفع مساهمتها في الناتج الوطني والوصول بها إلى حد الاكتفاء الذاتي، لذلك فالمدن السعودي حتما ستواجه مرحلة تنموية حرجة في المستقبل جراء عدم كفاية مواردها المحلية.
بارع، استراتيجية مثلى لتأسيس مرحلة جديدة لبناء الإنسان السعودي والاستثمار فيه، هذا البرنامج بات فرصة حقيقية لجميع الشركاء من المؤسسات الحكومية المعنية بالتنمية للاستفادة منه والعمل معه ومناصرته وتبني مخرجاته لتحقيق أهداف التنمية القطاعية المستقبلية، فالمجتمعات الصناعية المتطورة ماهي إلا امتداد وتراكم لتجارب وخبرات كانت نواتها صناعات تقليدية مرت بمراحل عديدة من التجربة والتطوير، الانضمام إلى العالم المتحضر يتطلب أن يكون لدينا منظمات قادرة على وضع أهداف يمكن تحقيقها، لا أحلام يمكن تخيلها، يقال: « حتى وإن كنت على الطريق الصحيح، فسوف يتجاوزك الجميع، إذا توقفت مكانك ولم تتقدم»، خلاصة القول: إذا ما أردنا استثمارا حقيقياً في الإنسان السعودي، علينا أن نستثمر في «بارع».
المهندس بدر بن ناصر الحمدان - متخصص في التخطيط والتصميم العمراني وإدارة المدن