تمارا سمير البغدادي
مهنة احترفها أبطال من مختلف الفئات؛ رجال، نساء وأطفال من وجهة نظرهم هي مهنة شريفة لكسب الرزق، لكنها تقود غالبيتهم للانحراف الاجتماعي والأخلاقي، ناهيك عن التفكك الأسري، متهمنا الأول الظاهري هو الفقر، ثم يأتي التشرد والقهر الاجتماعي ليتنافسوا على المركز الثاني، وتليهم البطالة ليبقى المتهم الحقيقي مستترا تحت هذه المسميات،
يعرفه البعض باسم التجارة البشرية والبعض الآخر يلقبه بالجريمة المنظمة؛ يهدد المجتمعات اقتصادياً، اجتماعياً وأخلاقياً يطلق العامة على هذه المهنة لقب «التسول».
نراهم يتحركون كأحجار على رقعة الشطرنج فنحتار بهم، كيف لنا أن نفرق وقد جُبلنا على الطيبة والكرم وحب الخير بين المتسول المحتاج والمتسول الذي يحول التسول إلى مهنة تدر عليه أمولاً دون عناء؟ هم عصابات منظمة قد يستجدونك في أي مكان فهم في حالة تأهب ينتظرون الفريسة المناسبة بفارغ الصبر خارج المطاعم، المساجد والمولات حتى «الإشارة الضوئية» لم تسلم منهم، حيث إن لهم مخططات ميدانية، إذا سئلوا عن سبب تسولهم يبدعون في سرد القصص المأساوية تكاد جميعها تكون لنفس المؤلف مع اختلاف بسيط في التفاصيل، فتارة تراهم متدثرين برداء الجوع وتارة يقدمون لنا شهادات صحية مزورة تقر بحاجتهم للعلاج، يالها من مهنة فهي لا تحتاج إلى شهادة علمية ولا تدريب، كل ما تحتاج إليه هو مهارة مد اليد مع قدرة بسيطة على الإقناع والتمثيل فيجمعون المال الذي قد يكون كخنجر مسلول لطعن الوطن لا قدر الله.
ما يثير اهتمامي في هذه الظاهرة هم الأطفال والاتجار بهم من قبل ذويهم أو غير ذويهم وإجبارهم للعمل بهذه المهنة، فهناك منظمات التسول التي تقوم إما باستئجار الأطفال من أسرهم مقابل مبالغ مالية بسيطة، أو شرائهم من المتاجرين بالأطفال الذين يقومون بعمليات الخطف المنظمة؛ لجأت بعض الدول المتقدمة إلى إصدار قوانين صارمة في حق الذين يدفعون أبناءهم للتسول، وسجن الوالدين في حالة اكتشاف الحكومة والمنظمات المعنية أن الأبناء لا يذهبون للمدرسة، قد نكون في المملكة بحاجه لقوانين أكثر صرامة، ومنظمات جادة في حماية الأطفال من ظاهرة التسول خصوصا عندما يصبح التسول عنوة، كما حدث ويحدث مع الكثيرين حيث يقوم أحد الأطفال المتسولين بالالتصاق بالهدف، وإحاطته بكل الدعوات التي تجبر قلبه على الرضوخ لملامحه البريئة، وما أن يقدم له النقود حتى تتغير ملامحه ويركض إلى الشخص الذي كان بانتظاره لينتزع النقود من يده الصغيرة بطريقه غاية بالفظاظة، بالنسبة لي أحاول جاهدة ألا أتأثر بهم فأنا على يقين أن النقود لا تذهب للطفل مباشرة، لهذا السبب ابتدعت طريقة خاصة بي لمحاولة مساعدتهم، ألا وهي أن أضع بمركبتي كيسا أملؤه بشتى أنواع الحلى والعصائر وعند مصادفتي لهؤلاء الأطفال أعطيهم بعضا منه عله يقيهم الجوع والعطش إن كان بهم أساساً، أنا أعلم أن طريقتي ليست هي الحل الأمثل لهذه المشكلة، لكنها تريحني نوعاً ما من الشعور بالذنب الذي يلازمني كلما رأيت طفلا بعمر أطفالي يستجدي بضعة ريالات، أشعر بالأسى عند مشاهدة المتسولات يحملن رضعاً تم تخديرهم ليسهل عليهن التعامل معهم، غير أبهين بمضاعفات المواد المخدرة على أجسامهم وعقولهم، فترى الرضيع نائما طوال الوقت، أين المنظمات الإنسانية والحقوقية من هذه الممارسات؟
بغض النظر أن التسول واستغلال الأطفال وحرمانهم من حقوقهم أمر لا تقره حقوق الطفولة والاتفاقيات الدولية «المادة 32-1/ المادة 35 باتفاقية حقوق الطفل واتفاقية العمل الدولية رقم 138/ 182» فالشرع يعارضه ويحرمه؛ إن من مميزات دولتنا أنها تطبق الشرع ودولتنا -ولله الحمد- لم تترك بابا من أبواب صناعة الخير والحث عليه إلا ومهدته وسهلته؛ الجمعيات الخيرية الإنسانية، الوزارات، المؤسسات الحكومية والأهلية, وأهل الخير في المملكة أبوابهم مفتوحة وعليه فإن الجوع والعطش لا مكان له, والحاجة للمال لقضاء منازعة معينة لا تكون بالتسول والاستجداء بالأطفال والرضع, العملية من أين أتيتها منظمة ومعد لها وهنالك من يستغلونهم ويستغلوننا؛ صحيح أن الريال الذي أدفعه لهذا الطفل أو المرأة ورضيعها يجعلني ضحية ولكن بالمقابل هذا الطفل وتلك المرأة ورضيعها هم ضحايا أيضاً, فأنا لم أخسر إلا ريالاً أما هم فلقد خسروا حياةً بأكملها وفرصة في عيش كريم في وطن كريم.
لا نعلم كيف وُجد الأطفال في الشارع، هل أتوا مغصوبين من طرف أهاليهم بسبب الظروف الاقتصادية؟ أم تم خطفهم أو بيعهم أو تأجيرهم من قبل عصابات تتاجر بهم مقابل مبالغ زهيدة؟ أين تذهب إيرادات التسول ومن المستفيد؟ نعم علينا أن نسأل أنفسنا هذه الأسئلة ولكن المسؤولية حين تغلب العاطفة على المنطقة والوعي السليم تقع على عاتق الحكومة وأجهزتها, فعلى أجهزة الدولة الرسمية البدء بتنفيذ وقف هذه الظاهرة والوقوف عليها, كتسجيل أسماء هؤلاء الأطفال وأخذ معلوماتهم كاملة, التحقيق فيمن يحضرهم بشكل يومي منسق إلى نفس المكان, متابعة هذه القضية بقوة القانون والنظام من خلال أجهزة ومؤسسات الدولة هو الحل الأمثل, أما الاعتماد على الوعي المجتمعي في مثل هذه القضايا فهو رهان خاسر لأن الريال لن يكسرني وطبيعتنا البسيطة تشجعني وفتح نافذة السيارة، وإعطاءهم لن يضرني لكن الصورة العامة للدولة والأطفال والرضع واستغلالهم وحقوقهم علينا هؤلاء جميعا من يتضررون، يكفينا ألماً حين نعلم أن هنالك من يستهزئ بعقولنا جميعا ويكنز المال بسهولة وغش ونذالة غير آبه ولا مبال بمعنى أن تعيش في وطن حر يقوده ملك حر حازم.