فيصل أكرم
في مصادفة، أعتبرها من عجائب حسنات العالم الافتراضي (فيسبوك) الذي دخلته على مضض مؤخراً – وأوضحتُ مسببات ذلك في مقالة قبل أسبوعين - التقيتُ برجلٍ فاضلٍ من مصر، اسمه رفعت فرج، ويعمل مدرّساً للغة العربية (ومصححاً لغوياً)!
طبعاً من حقي أن أضع علامة التعجّب بعد ذكر صفة (المصحح اللغوي) فلي مع هذه الصفة تاريخٌ من (العناد) لا يشجّع على (صداقة) بيننا؛ وذلك موثق في مقالات قديمة، منشورة هنا في صحيفة الجزيرة، لستُ بصدد الحديث عنها الآن؛ إنما أنا في غاية الغبطة والانتشاء بقراءة كتاب قدّمه لي الأخ رفعت، حين تفضل بزيارتي في مقر إقامتي المؤقت بالقاهرة.. عنوان الكتاب (سطوة النصّ.. خطاب الأزهر وأزمة الحكم) صادر عن دار (صفصافة) للنشر والدراسات، هذا العام 2016 للمبدعة د. بسمة عبد العزيز.. وهي طبيبة وفنانة تشكيلية وأديبة وباحثة بإتقان أعاد لي الثقة بما يصدر من كتب في مصر الآن.
كنتُ قد تجرّأتُ في مقالات كثيرة، أنعي فيها مستوى الكتب الصادرة في القاهرة خلال السنوات الخمس الأخيرة، بخاصة ما يتحدّث منها عن (الثورات والانقلابات – سيّان) وأترحّم على عصور ذهبية قرأنا فيها من مصر أعظم الكتب وأهمّها على الإطلاق.. ولا أظنّ أحداً ينكر الفارق الشاسع حدَّ الأسف.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى، بات في حكم المتعارف عليه أن البحوث التي يفشل أصحابها في الحصول بها على درجة علمية (ماجستير أو دكتوراه) كثيراً ما تقذفها المطابع (أو دور النشر - سيّان) إلى المكتبات بوصفها إصدارات من الكتب الحديثة التي تحمل همّاً ثقافياً وجهداً علمياً لا يستهان بهما؛ وكثيراً ما يتحسّف القارئ حين لا يجد في تلك الإصدارات أياً من الهمّ أو الجهد المزعوميْن. فهي تشبه تماماً تلك القصائد الرديئة التي يفشل ناظموها في نشرها على صفحات الصحف والمجلات الأدبية المعتبرة فيكون اللجوء إلى دور نشر (تجارية بالعادة) لإصدارها في (دواوين) لا ترضي أحداً غير أصحابها!
غير أن هذا الكتاب (سطوة النصّ) برأيي قد يعيد النظرة في كل ذلك لا إلى مكانها الصحيح فحسب، بل إلى المكان الأصح والمرتجى النادر في زماننا هذا.. فالكتاب، في أساسه، تقول المؤلفة بسمة عبد العزيز:
(طالما شكّل لي خطابُ المؤسسات الدينية مصدرَ جذب، لا في الحقبة الزمنية الراهنة فقط، بل في حقب سابقة وعصور قديمة أيضاً؛ إذ كان لعلاقته بالسلطة وشكل استجابته لها، بريق خاص يغري بالتأمل والملاحظة). وتشرح بعد ذلك بتفصيل جميل ولعها بمتابعة وجمع قصاصات من خطابات المؤسسات الدينية (الأزهر نموذجاً) ومقارنتها ببعضها مع تباين التواريخ والأحداث لتكتشف تناقضات تدفع بحيرتها إلى مزيد من المتابعة والمراقبة والتقصي من أجل إجلاء اللبس وتبيان ماهية تلك (النصوص) المتناقضة، من فتاوى وغيرها.
تقول: (شاء الحظ أن يصادف اهتمامي المتصاعد يوماً بعد يوم هزّة كبرى خلخلت أوضاع السلطة السياسية، اندلعت في مطلع عام 2011 وتواصلت توابعها لما بعد ذلك بأعوام). وفي الشهور الأولى من عام 2012 تقول: (راسلتُ جامعة فرنسية وتقدّمتُ بمشروعَين لاستكمال دراستي العليا في علم الاجتماع، وسرعان ما وصلتني موافقة الجامعة، وسافرتُ بالفعل إلى الجنوب الفرنسي لكنني عدتُ بعد قليل لظروف سيئة وقعت في القاهرة ولم أتمكّن من تجاوزها. قررتُ حينها أن أسجّل أحد المشروعين في مؤسسة تعليمية مصرية تمنح درجتيْ الماجستير والدكتوراه، واخترتُ المشروع المتعلق بتحليل خطاب المؤسسة الدينية، وسُجلتُ بالفعل للحصول على درجة الماجستير، واعتمد مجلس القسم خطة البحث التي وضعتها، وشرعتُ في العمل ولم تزل الأجواء السياسية غير مستقرّة..)
وتكمل المؤلفة في مقدمة كتابها سرد تفاصيل اختلافها مع (المشرف) على (الرسالة) وامتناعها عن الخروج على مبادئ قناعاتها من أجل التماهي مع خط المؤسسة (المانحة) للدرجات (الأكاديمية) ولا أقول (العلمية).. فالعلم لا يكون علماً حين تسيطر عليه النزعات والمصالح والأوامر العليا وغيرها من (الأمزجة) العابرة. تستطرد بسمة، بعد رحلة صعبة من البحث والتقصي ومتابعة الأحداث وملاحقة الأخبار من مصادرها التي تتمنع عن البوح إلا بما تريد إشاعته وتخفي ما عداه.. ومن يقرأ مقدمة كتابها يشعر بالجهد والتعب والإخلاص والمغامرة من أجل الإتقان تظهر جلية بين السطور التي ختمتها بقولها:
(كان هجوم المشرف على الرسالة بهذه الكيفية علامة إنذار، ومدعاة للتريث وإعادة التفكير، كما كان غياب أي تعليق إيجابي من جانبه، وضنّه بأيّ علامة استحسان أو حتى قبول بمنزلة مؤشر على وجود خلل ما، وعلى احتمالية ولوج الأمر مساراً يفتقر إلى الاستقامة والإنصاف، ألحقُ فيه بمن سبقوني إلى الوقف والتحقيق، وربما التنكيل. تبيّنتُ أن الحماسة ألهتني عن الانتباه إلى تبعات ما للموضوع الذي اخترته في تلك الفترة الحرجة من حساسية. فضّلتُ ترك الأمر لأسابيع قل يلة، هدنة أستريح فيها من اثنتي عشرة ساعة كنتُ أقضيها يومياً في الكتابة والتشذيب، وأفكّر في خطوتي التالية، وفي النهاية قررتُ أن أسحب الرسالة، وأتنازل عن طلب الدرجة العلمية متجنّبة صراعاً لا فائدة من ورائه، وأن أسجّل موقفي، وأعدّها للنشر في كتاب..) ووقعت المؤلفة خاتمة مقدمة كتابها بتاريخ 30 سبتمبر 2015 وكان من الرائع وصول الكتاب إلى الناس، وأنا أحدهم، ونحن لم نزل في مطلع 2016 فشكراً لأخي العزيز رفعت فرج، الذي جاء اسمه في شكر المؤلفة لمن تعاونوا معها لإنجاز الكتاب، وألف تحية إعجاب وإكبار للدكتورة بسمة عبد العزيز مؤلفة هذا الكتاب (سطوة النص) التي طغت عليه (سطوة الإتقان) في عمل جاء ليضع نقاطاً كثيرة على حروف أكثر، ظلت عارية تتلبس التكهنات والأخبار المزيفة لاصطناع حقيقة خارج الواقع.
ختاماً أقول: كل ما جاء في مقالتي هذه ما هو إلا وقفات خاطفة على سطور (مقدّمة المؤلفة) لهذا الكتاب الذي أراه من أهمّ الكتب الصادرة في مصر حديثاً.