إبراهيم عبدالله العمار
ما هي الحضارة؟
بعض الناس يرونها التطور التقني. السيارات والطائرات والحواسيب، إذا انتشرت في مكان - خاصة إذا كانت تلك الدولة تصنع تلك الأشياء - فهي متطورة في ذهن البعض. ألمانيا مثلاً، هل مَن يجرؤ أن يصفها أنها غير متحضرة؟ يصنعون السيارات والأسلحة والأجهزة المتطورة، لديهم الأنظمة الحازمة، شعب منظم جاد يحب التعلم، شوارع نظيفة، حافلات وترامات ملتزمة بالوقت، يا لها من حضارة! البعض يتوق أن يعيش في مثل هذه الدول ويتغنى بما لديها من «حضارة». لكن... هل هذه هي الحضارة فعلاً؟
يختلف تعريف الكلمة بين الخبراء، ومن التعريفات التي وضعها العلماء: مجتمع بشري يطبعه التنمية المدنية والتواصل اللغوي والطبقات الاجتماعية وما إلى ذلك. غير أن التعريفات الفنية الصرفية كهذه لا تُغْني في حد ذاتها، وتتطور الكلمة لتعني شيئاً أكبر، ومثال ذلك كلمة إنسان، فقد يُعرّف عالم الأحياء الإنسان: كائن حي يتميز بالمشية الثنائية والظهر المنتصب والوعي وغير ذلك. لكن عندما تَنهر ظالماً ليكف عن إيذاء مظلوم وتقول: «إنه إنسان»، فأنت لا تقصد التعريف البيولوجي. تَكبر الكلمات لتعني معاني أعظم، ومنها كلمة حضارة. عندما تقول: هذا الذي يرمي النفايات في الشارع غير متحضر، فأنت لا تقصد تلك المعاني (تنمية مدنية إلخ) بل تقصد حضارة أخرى .. حضارة أكبر وأعمق من ذلك.
حتى في الغرب لها نفس المعنى. إذا رأى الغربي شخصاً عنيفاً جاهلاً فهو يصفه بكلمة uncivilized (غير متحضر).
لهذا عندما نرى أمثلة الغرب والذين يفتتن بهم بعض الناس وبحضارتهم فهم ينسون المعنى الأكبر ويركزون على المعنى التعريفي. يرى التطور المادي ويقول: يا لها من حضارة! لا مانع من الاستفادة من العلوم المادية، فهذا واجب، وليس هذا ما أقصده.
تلك حضارة المادة. حضارة الملموس والمحسوس. حضارة الجسد. هناك ما هو أعظم منها: حضارة الروح.
عندما أتى الإسلام لم ينزل الله علوماً تقنية وأسراراً لصنع السلاح المتطور وأماكن المواد الخام، رغم أن الله يعرف هذا ويستطيع أن يوحيه لرسوله. لما حاصر المسلمون القسطنطينية كان لدى الروم سلاح سري اسمه «النار اليونانية» صبوها على المسلمين وأحرقت من أحرقت ولم نعرف كيف نتعامل معها، أفشلت غزوات، وإلى اليوم سر السلاح دفين. كان سهلاً أن يعطي الله المسلمين مثل هذا، لكنه لم يفعل. عِوضاً عنه أعطانا ما هو أعظم بكثير: المعتقدات. التشريعات. الحدود. الضوابط. بهذه الأشياء بنى المسلمون الحضارة. بهذه الأشياء وصل المسلمون لأعظم حضارة مادية... لكن كان معها حضارة الروح، فلم يصبحوا مثل الغربيين اليوم. الغربي يصنع سيارته بنفسه لكن لا يتردد أن يحمل سلاحه ويقتل الأبرياء، وأبشع حرب في التاريخ (الحرب العالمية الثانية) غربية تماماً. الغربي يصنع طائراته بنفسه لكنه يقف ببرود متعمد وهو يرى مسلمي البوسنة يُذبحون على يد الصرب. إنه يمتعض من تعدد الزوجات بل حتى الزواج نفسه لكنه يشجع الزنا ويصفق للشذوذ الجنسي ويهاجم الشعوب التي لم تُمسَخ فطرتها مثله. الغربي «المتحضر» لديه التقنية لكن أيضاً لديه التجاهل التام للجار والمار ولا يسلم ولا يرد السلام، لا يصل رحمه وينسى وجه أبيه ويترك أمه تموت وحيدة في ملجأ المسنين.
هل هذه هي الحضارة؟ إذا كانت هي فأبعدها الله، وهات حضارة الروح.. فهي الحضارة فعلاً.