محمد آل الشيخ
من الثابت القطعي أن الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام لم يوص بمن يخلفه من صحابته بعد وفاته، بل ترك هذا الأمر لجماعة المسلمين ليتدبرونها حسب مقتضيات المصلحة، فالأمور الدنيوية، مثل انتقال السلطة السياسية ومن يتولاها وكيف، وما هو مسماها الوظيفي، فليست من شؤون الدين، إنما من شؤون الدنيا؛ وشؤون الدنيا داخلة في عموم قوله الثابت عنه صلى الله عليه وسلم: (أنتم أعلم بأمور دنياكم)، في إشارة واضحة وجلية إلى أن القضايا الدنيوية ومنها السياسية متغيرة، تختلف من مكان إلى مكان، ومن زمن إلى زمن؛ وكما يقول الأصوليون: (العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب)؛ بينما قضايا الدين والعبادات، وعلى رأسها التوحيد وإفراد الله بالعبادة، هي مسائل غير مرتبطة بالزمان والمكان؛ فالإيمان به -جل وعلا- وأنه أرسل رسوله بشيراً ونذيراً، ليأمر الناس بإقامة الصلاة، وصوم رمضان، وإيتاء الزكاة، وحج البيت العتيق إذا توفرت الاستطاعة، كلها تخترق الزمان وتطبق في كل مكان، سواء في مكة والمدينة المنورة، أو في نيويورك أو لندن أو طوكيو. بينما أن أمور الدنيا فمتغيرة، تختلف حسب الزمان والمكان، ومرتبطة بالمصلحة والحاجة والعدل بين الناس، تدور معها حيث دارت، وتتبعها حيث اتجهت؛ لهذا كان من الحكمة الإلهية أن تبقى مُناطة بالناس، وتقديرهم، وما يتفقون عليه بينهم.
في سقيفة بني ساعدة، بُعيد موت الرسول، اختلف المسلمون في من يكون الخليفة، أهو من المهاجرين، أم من الأنصار، وقدّم كل فريق أدلته وحجته، ثم اتفقوا على أن يكون «أبا بكر الصديق» - رضي الله عنه - فلو أن فكرة (الخلافة) والشأن السياسي، كانت مطروقة في وقته عليه أفضل الصلاة والسلام، بأي نص ثابت عنه، لكانت تلك اللحظة التاريخية العصيبة هي الزمن المناسب لأن تكون حاضرة وبقوة لترجيح كفة المهاجرين على الأنصار، غير أن من يقرأ مداولات ما جرى في السقيفة، والمتواترة تاريخياً، لم يذكر أحد من كتاب الّسّيَر أن واحداً من الفريقين المختلفين احتجَّ بها؛ فضلاً عن أن القرآن الكريم لم يتطرق لموضوع الخلافة لا بالتصريح ولا بالتلميح، إلا في آية عامة مجملة، أكدت على بشرية الرسول، واحتمال موته أو قتله، في قوله جل شأنه: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ}؛ وما عدا هذه الآية فلم يتطرق القرآن لهذا الشأن الدنيوي السياسي أبدا؛ وهو -جل وعلا- الذي قال في آية أخرى {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ}؛ أي ما فرض عليكم من شؤون الدين؛ وقوله في موضع آخر {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}؛ فالآيتان هما دليل قطعي أن إقحام الدين في السياسة وتفاصيلها أمور ليست من الدين، فقضايا الدين ذكرت إما بالإجمال أو بالتفصيل في الذكر الحكيم، فإذا كانت الخلافة، شأناً دينياً، فلماذا تركها دونما نص إجمالي أو مفصل، والأمر ذاته في حديث آخر يشترط أن يكون الخليفة قرشياً، حتى ولو لم يبق في الدنيا إلا إثنان، كما يطرح بعض المتأسلمين، فهل هو تفريط منه -حاشاه- في قضية خطيرة، مثل الشكل - (دولة الخلافة) - أو المضمون -شرط أن يكون الخليفة قرشياً- كما جاء في حديث آخر؟
لذلك فأغلب الظن أن كل الأحاديث التي تتطرق للشؤون السياسية، والدولة وشكلها بعده، وهل هي خلافة، أو شكل آخر من أشكال الدول، تبقى مجرد أحاديث أحادية، والأحاديث الأحادية ظنية، وأن صحت، وصح سندها، وكونها فعلاً صدرت عن الرسول، هي مسألة ظنية احتمالية، حتى وإن صح السند، لا ترقى إلى القطع واليقين، كما هو الأمر بالنسبة للقرآن، والذي هو بلا شك يقيني مطلق القطعية ومطلق المحفوظية.
ولأن (دولة الخلافة)، قد رفع من شأنها المتأسلمون المُسيسون إلى درجة جعلوها (فريضة)، كما هو المنشور السياسي الذي وزعته جماعة الأخوان إبان حكمها لمصر، وتحديداً قبيل صلاة إحدى الجمع، التي أمَّ المصلين فيها المدعو «محمد العريفي»، وبشّرَ فيها بدولة الخلافة، التي يدعي الأخوان بأنهم يعملون لإقامتها؛ فهذه بلا شك (بدعة) في الدين، ما أنزل الله بها من سلطان؛ فالشأن السياسي الذي جاء ذكره في القرآن قوله جل شأنه: ({إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ}، أما كيفية (العدل) المطلوب شرعا، وكيف يكون، وكيف تكون دولته، فتركها للمسلمين، يبحثون فيها، ويتدبرون الوسيلة التي توصلهم إلى هدفها النبيل. أي ليس ثمة (دولة خلافة) فرضها الرسول على أنها (فريضة)، كما فبرك الأخوان، أو كما يدعي من خرجوا من تحت عباءتهم، كخليفة (داعش) - الذي يدعي بأنه (قرشي)، مواكبة منه لشرط (القرشي)، والله أعلم بمن يكون على حقيقته، وإلى من تنتمي أرومته.
إلى اللقاء