د.فوزية أبو خالد
تعددت منذ اللحظات الأولى لقرار الغزو الروسي لسوريا سيناريوهات التكهن حول مغزى روسيا وإدارة فلاديمير بوتن من الاستهداف العسكري لهذا البلد المنكوب بعد خمس سنوات عجاف من غيلة نظام الأسد النازي للشعب السوري،
وبعد أن تمزق ذلك الشعب شر ممزق بين نار جيش نظام هولاكو ونيرودا وهتلر وجنكيزخان وشبيحته, وبين رمضاء ميليشيات حزب الله بمددها الإيراني, وبين جحيم ميليشيات داعش, وبين أتون تشريده خارج وطنه إلى أوطان لم ترد أن تمد له يد المساعدة وهو يذبح حيا على أرضه فكيف يراد بها أن ترحب به على أرضها مثخنا بالجراح.
بعض هذه السيناريوهات جاء من النوع المضحك المبكي لشدة الكوميديا السوداء التي تنضح من تصوراتها, وخاصة تلك التي تبتاع بعض «الهياط» الإعلامي و»التهريج» السياسي المتمثل في قول إن روسيا إنما جاءت إلى المنطقة بقضها وقضيضها وبذلك الكم من العتاد العسكري، إنقاذا للشعب السوري والمنطقة من مقصلة الحركات الإرهابية المنظمة والمتمثلة في تنظيم داعش.
وهو سيناريو لا يستطيع أن يقول به مجنون، ناهيك عن أن يصدقه عاقل؛ فروسيا نفسها لا تستطيع التجرؤ على ادعاء مثل هذا السيناريو في ضوء تاريخها المخزي مع الشعب السوري الذي وقفت فيه مع دموية نظام الأسد في رده الاجتثاثي الإجرامي على مطالب قوى المجتمع السوري السلمية بالإصلاح منذ الانطلاقة الأولى لربيع درعا على يد شباب مسالم أعزل.
سيناريوهات أخرى لم تخجل من سخرية الأقدار ومنها تلك التي تتبنى وجهة النظر الروسية القائلة إن روسيا إنما تدخل سوريا عسكريا في هذه المرحلة من تراكم جرائم النظام وخلط الأوراق وتلطيخها ميليشيا بدم السوريين بين مختلف فصائل القتال بحثا عن حل سلمي. فهل يمكن أن يحمل الاحتلال العسكري حلا سلميا لجحيم الحرب الأهلية التي أضرمها بلا هوادة وعن سابق عمد وغباء وإصرار جيش بشار الأسد في لحم ودم الشعب السوري بوقود إيراني وبمباركة ومساندة روسية مستميتة. فقد وقفت روسيا منذ الحرائق الأولى لانتقام النظام الدموي من مطالب الشعب السوري السلمية بالإصلاح إلى جانب النظام ضد الشعب. فساندت النظام دبلوماسيا في مجلس الأمن واستخباريا في الكواليس السياسية وتمويلا وخبرات قمعية في ساحة القتال ضد الشعب. ولهذا فتدخلها العسكري المباشر بعد أن حصلت على موافقة البرلمان الروسي ليس إلا الدفعة الأخيرة لأجندتها السياسية التي بدأتها بالتقسيط لخمس سنوات في سبيل استلام حصة يعتد بها من المكتسبات نتيجة لانهيارات المنطقة العربية.
غير أن استخفاف تلك العينة من سيناريوهات الوهم السلمي بعقول البشر وبجراح الشعب السوري وكارثته الوطنية والإنسانية تبلغ مبلغا من الوقاحة والخسة لدرجة التبجح بقول إن الإبقاء على بشار في سدة السلطة هو شرط و جزء من الحل السلمي المرتقب الذي ستأتي به روسيا إلى سوريا على أسنة البوارج والصواريخ والقنابل العنقودية التي طفقت تقصف أطفال سوريا من اللحظات الأولى للاحتلال العسكري الروسي للأراضي السورية. فبشهادة منظمة «هيومن رايتس ووتش» سارعت روسيا بمجرد إعلان وصول فلول جيشها الأولى للأرضي السورية ولا تزال إلى هذه اللحظة إلى صب الغاز على الحريق وإهداء أطفال سوريا مزيدا من تلك الحلوى القاتلة لتبيد منهم عنقوديا من أفلت من براميل النظام الغازية بعد الحظر الدولي.
والموجع في تبجح مثل ذلك السيناريو هو أن اطمئنان روسيا, للتشتت العربي رأيا وقدرات وللتشاغل الأمريكي وللتأييد الأوروبي كموقف ألمانيا والنمسا المعلنين في تصريحات ميركل وسبستيان كورتس, وإن استدركت المستشارة الألمانية موقفها -مؤخرا- بطلب إعلان مناطق حظر جوي على بعض المناطق السورية, قاد بدم بارد إلى محاولات تسويق سيناريو التدخل الروسي في سوريا على على المملكة العربية السعودية. فمنذ ترتيب موسكو لأحد أزلام النظام الاستخباراتي الأمني بسوريا لزيارة السعودية الصيف الماضي مرورا بلقاء الدوحة الثلاثي/ الرياض واشنطن موسكو ولقاءات ثنائية أخرى لوزراء الخارجية, وروسيا تتصور بأنها بذلك وبعدم اعتراضها على قرار الأمم المتحدة 2216 بشأن عاصفة الحزم يمكن أن تقنع المملكة أو بالأحرى تجر المملكة لمباركة خطوة تدخلها العسكري في سوريا, والإبقاء على الأسد في السلطة داخل الأجزاء التي ما زالت ترزح تحت سيطرته تمهيدا على ما يبدو لتقسيم سوريا أو الحفاظ على ما يسمى بمنطقة «سوريا المفيدة».
وهذا ما لم ينطلي على المملكة، خصوصا بعد تلك الزيارة الرسمية بقيادة الأمير محمد بن سلمان لروسيا التي كانت المملكة على ما يبدو تريد بها التفاهم على حل الموقف حلا تفاوضيا عن طريق الاحتواء الدبلوماسي.
إلا أن أشد وطأة من هذه السيناريوهات هو مراوحة البعض عند الكثير منها حتى بعد مضي عدة أشهر على هذا الغزو الروسي لسوريا بما كان كافيا ليكشف عن طبيعته العدوانية البعيدة كل البعد عن أي مناصرة للشعب السوري أو وضع حد لمعاناته، بل إن العكس هو الصحيح، حيث صار تزايد أعداد مختلف فئات الشعب السوري الفارين نحو أوروبا من ضراوة العدوان الروسي مضروبا بعدوان النظام والقوات المتقاتلة الأخرى على الأرض السورية ورقة ضغط على الدول الأوروبية يحاول بها النظام الروسي خلق أرضية لأي مساومات سياسية محتملة في تسويق ابتلاعه لجزيرة القرم واحتلاله للأجزاء الشرقية من أوكرانيا.
على أنه أني تعددت سيناريوهات دخول روسيا إلى سوريا فإن دخول روسيا عسكريا إلى سوريا إنما هو احتلال بواح والأنكى أنه بخيانة عظمى من النظام السوري وبتحالف إيراني علني وبتواطؤ إسرائيلي ضمني وتعاون لوجيستي وبمباركة أمريكية وأوروبية مغمغمة وعلنية وبشراكة صينية من تحت وفوق الطاولة على المدى المتوسط على أبعد احتمال, والأفدح أنها بعجز عربي كسير ذليل.
وأخيرا, فإن أي سيناريو تحليلي جاد ليس فقط لأسباب دخول روسيا العسكري لسوريا بل للحصاد والجنى المتوخى منه روسيا لا يمكن أن يذهب بعيدا في تقدير خطورة الموقف حق قدرها إلا بإقرار أن مصلحة روسيا وليس الدفاع عن نظام الفأر ولا الجحش أو الأسد هو المحرك الرئيسي والثانوي معا في دخول بوتن بثقل بلاده العسكري إلى سوريا وإن هذا التدخل لم يصبح في حكم الضرورة الروسية، إلا بعد أن بدأت بوادر احتمال خسارته لآخر موقع قدّم له في مياه الشرق المتوسطي الدافئة بعد أن فقد تباعا لسبعة من المواقع الاستراتيجية في العالم العربي في غضون العقود الماضية أواخر وبعد انفراط عقد الاتحاد السوفيتي.
كما أن قراءة تدخل روسيا العسكري في سوريا على أنه ليس إلا نتيجة تخوفها من تبلور هلال سني يصل إلى غروزني وخوفها من دعشنة الشيشان في ضوء وجود ما يقدر بألفي روسي من المنخرطين أو المتعاطفين داعشيا يكون ناقصا لو لم ينظر إليه في ضوء التضخيم الروسي لذلك التخوف بهدف الحصول على مقعد دولي مؤثر وموجه في التكتل الأمريكي الأوروبي ضد ما يسمى بالإرهاب الدولي وحصاداته السياسية والاقتصادية المختلفة.
فروسيا مثلها مثل أي دولة من منظومة دول الهيمنة لا تريد أولا وأخيرا إلا مصلحة روسيا, من الحصول على موقع يحسب حسابه في التسويات السياسية والمشروعات الاقتصادية واستثمارات الطاقة بالمنطقة العربية إلى استعادة أمجاد الاتحاد السوفيتي الماضية عالميا كشريك دولي يعتد به على قدم المساواة مع النظير الأمريكي في تدبير أو «تدمير» الشئون المرتبكة في العالم. وإذا كان ثمن ذلك تواجدها وتواجد قواعدها العسكرية في منطقة تتداعى للأعداء والأصدقاء وأشباههما كمزاد علني, فليس ما يمنعها أو سواها ما لم يعطِنا الله الإرادة والرؤيا لنغير ما بأنفسنا قبل أن تمحونا رياح الحروب والتحولات لهذا القرن كما فعلت أو كادت في قرون سابقة. ولله الأمر من قبل ومن بعد.