أحمد حكمي ">
ما كنت أعلم في يوم من الأيام أن مهنة الإعلام ستقودني إلى طريق من الصعب تحمله عاطفياً، ولو علمت منذ بداياتي بأني سأكون في بعض المواقف العاطفية المؤلمة التي عشتها لما كنت إعلامياً منذ البداية ولكنها أقدارنا تختار ما تشاء.
أكتب عن الناحية العاطفية لأنها أشد إيلاماً على النفس دون غيرها وترتكز عليها أركان الإبداع تنتج عنها بعض التصرفات وتتخذ بناء عليها بعض القرارات وربما الأخيرة يجانبها الصواب عندما تغلفها العاطفة.
لقد تجرعت من الإعلام ألمين مريرين خلال الثلاثة الأعوام الماضية لما حملته هذه الأعوام انتهاءً بيوم الخميس الماضي من أحداث تشعر وأنت تشرف على تغطيتها بحالة من الشعور «المتبلد» الذي لا تستطيع وصفه أو ترجمته فمقتل زميلين وصديقين تربطك بهما علاقة ود وعشرة عمر لا يمكن نسيانها أمر في غاية المرارة، فما بالك وأنت تتابع تغطية أحداث مقتلهما إعلامياً وتكلف الزملاء بجمع المعلومات من هنا وهناك، وفي ذات الوقت تستعرض شريط الذكريات الذي جمع بينك وبين هذين الصديقين، هل تبكي فراقهما أم تتماسك من أجل إظهار الحقيقة الغائبة.
حالة الهذيان ألا شعوري الذي أصابني وأنا أتلقى خبر مقتل الزميل والصديق محمد برناوي في مدرسة عثوان الثانوية بمحافظة الداير بني مالك على يد أحد الطلاب هو ذاته الذي أصابني يوم الخميس الماضي وأنا أتلقى الصفعة الثانية بمقتل زميلي وصديقي المشرف التربوي حسن المالكي الذي لقي حتفه ضمن الستة من زملائه على يد أحد المعلمين الذي اقتحم مقر عملهم الآمن ليكتب فصول حكاية مأساوية جديدة من حكايات البحث عن «الحقيقة» ، والمالكي - رحمه الله - كان مديرا لذات المدرسة التي قتل فيها برناوي وكنا نعمل فيها سوياً عندما كنت معلماً.
وأنا ذاهب لعزاء أسرة صديقي المالكي بدأت استعرض ذكريات الطريق الوعر الذي كنا نسلكه من أجل الوصول إلى المدرسة ورغم العناء الذي نعانيه يوميا إلا أننا عندما نصل إلى قمة الجبل نجد أناس اتخذوا من تضاريس قممهم مثالا حقيقاً لهم فهم في قمة الشهامة والكرم يحتوون أي قادم إليهم ويعلمون بأن الانطباع الأولي مهم ويبرهنون بأن شقاء الطريق لا يمكن أن يكون مثالاً لأخلاقهم الأبية التي تأبى إلا تكون سامية كما هو حال تلك الجبال الشاهقة والمنحدرات المخضرة ذات الطبيعة الفاتنة.
أحداث مقتل برناوي والمالكي هي أقدار اختارها الله لكي تكتب نهاية زميلين عزيزين لكنها بالتأكيد تحتاج إلى وقفات وتأملات تجعلنا نفكر قليلاً خارج الصندوق لنسأل: كيف تحولت بعض مجتمعاتنا من حالة الارتباط العاطفي الذي نشعر به الآن نحو من نحب إلى حالة من الهيجان «الشيطاني» والاضطراب النفسي المدمر لكل ألوان الحياة الزاهية دون تفكير في مآل ما يخلفه هذا الهيجان من تدمير لقصور مشيدة من البراءة والحب والوئام بين أفراد المجتمع في وطن كفل للجميع سبل العيش الهانئ والآمن؟.
من أين اكتسبت مجتمعاتنا البسيطة والمحبة قساوتها «الحدثية»؟ ولماذا تمر عواطف البعض بنوع من التصحر البغيض؟ لماذا أصبحنا نسأل عن الحقائق المعلومة ونظن بأنها غائبة ونقتل من أجلها بكل سهولة، من أجل نهدي الزوجات ترملهم، ونيتم أطفالاً هم بحاجة إلى أجنحة آبائهم ليستظلوا بها من هجير الزمن.
كل هذه الأسئلة وأكثر تقودنا إلى معرفة تفاصيل جديدة ما كنا يوما من الأيام نرغب في التعرف على مرارتها، لكننا حتماً بحاجة إلى تكاتف مجتمعي لحماية ما تبقى من عقول تعي بأن الحياة أجمل بكثير عندما يكون عنوانها الحب ولا غيره حقيقة.