(وقفات قرآنية) ">
الوقفة الأولى: تميز الإنسان عن بقية المخلوقات بأمور أحدها الاستقلالية الذاتية فيه، فهو مستقل في بناء شخصيته، ومستقل في خياراته. ومما يتميز به أيضا أنه تميز بوجود خاصية حرية الاختيار قال تعالى {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا} فهذه الأمانة هي حقيقة الاختيار المحض لدى الإنسان. وبقية المخلوقات لديها نواميس تحرمها من الاختيار. فالملائكة مثلا قال الله فيهم {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}.
لكن البشر بخلاف ذلك، فهم يعصون الله جل جلاله ولا ينفذون أمره، وذلك لوجود خاصية الاختيار عندهم. ولكن الله أوجد مع هذا الاختيار بيان وأرسل الرسل وأنزل الآيات وأوضح طريق الجنة والنار، وقال للإنسان أختر أي الطريقين شئت، ولكن الجزاء من جنس العمل. ثم بين جل جلاله في آخر الآية أن من الطبع العام للإنسان هو أنه ظالم وجاهل. لكن هذه الصفتان تنتفيان عنه بأمرين هما الإيمان والعلم. فالإيمان هو اليقين بصدق الرسل جميعا وما جاءوا به صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. والعلم هو فهم ما جاء به هؤلاء الرسل عن ربهم. إن من الضروري أن يدرك الإنسان أن ليس كل علم ينفع اتخاذه واستخدامه، فالعلوم أشبه ما تكون بالمفاتيح، لكن السؤال هو أي المفاتيح التي نستطيع أن نغلق بها أبواب الجهل؟ إن هذا المفتاح قطعا هو مفتاح الرسول الكريم الذي يفتح الله به أنوار العلم.
الوقفة الثانية: قال تعالى {إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (21) إِلا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ} بين سبحانه وتعالى في هذه الآيات أن هناك خصلتان قبيحتان ملتزمتان مع الإنسان، وهو أنه يجزع عند وقوع المصائب عليه، ويمنع غيره من الخير إذا حصل عليه. لكنه بين أن العصمة إنما تكون للمصلين فقط عن هذه الصفات القبيحة، ثم استطرد موضحا أنه ليس كل مصلي له الحماية والحصانة من هذه الخصال، بل المداومين على صلاتهم. فالديمومة هي الشرط الذي به يحصل الحفظ من هذه الخصال البذيئة.
إن الديمومة على الصلاة أشبه ما تكون بأنظمة الحماية من الفيروسات في أجهزة الحاسب والتي تعمل بشكل مستمر ومتزامن، فبمجرد توقفها عن العمل فإن الجهاز مباشرة سيعطب. إن ما نقصده بالديمومة هي تلك الديمومة المتجددة المتطورة المتقنة والتي تعين على الإبداع والإتقان في أمر الصلاة، وليس التكرار المفرغ من معاني إقامة الصلاة العظيمة.
الوقفة الثالثة: قال تعالى {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} بيّن الرب سبحانه وتعالى أن هؤلاء الكفار والمشركين كالأنعام بل هم أضل، وإنما ذلك التشبيه كان في باب الشهوة، لأن الحيوان قدراته وإمكاناته محدودة فهي بينه وبين الشهوة أو بينه وبين البطن. فالحيوان لديه خطان لا ثالث لهما، الأول منه إلى الطعام، والثاني منه إلى الأنثى ليلقحها. فلا يتصور من الحيوان أن يطلب شيء غير هاذين الشيئين. إننا لم نرى من قبل أن حمارا طلب من صاحبه جهاز راديو على سبيل المثال. فالتكريم للإنسان جاء لخاصية العقل فيه الذي إما أن يرفعه مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين أو يهوي به في أسفل السافلين والعياذ بالله.
الشيخ إبراهيم الأخضر بن علي القيم - شيخ القراء بالمسجد النبوي