د. خيرية السقاف
أعرفها ولهة بصغارها..
شغوفة بوضاءة جباههم تنير صبحها، وتؤنس مساءها..
تخيلَته حين يكبر الطبيب الذي يبلسم آلامها، وحين تنفرط مواجعها يلمُّها بدوائه,
وحين يعتريها الكبر، ويوهن العظم منها يكون ذراعها، ومصل شفائها..
غير أنه حين استقرت بين يديه وثيقة الثانوية، أسرّ لأبيه, لا غير العسكرية,
شهقت هي، « ولدي لا تفزع قلبي عليك»..،
قال لها: هو ذا المكسب يا أمي ..
انخرط في دراسة العسكرية، يغيب عنها طويلاً ثم يعود قليلاً، وحين يأتيها يحدثها بما يتعلم,
وما يكون جوابها إلا ركعتين بين يدي ربها تسأله له الحصن, والتوفيق، والحماية، والفلاح، والثبات..
اليوم، فلذتها «عمر» على الحدود،
وقلبها الرهيف الخافق الراجف بين ضلوعها قد كسته سكينة، واعتمره صبر..
تحدثني: «البارحة هاتفني، قال يا أم، أتعلمين؟..
إنّ الشهداء الثلاثة الذين قضوا هم زملائي، وأصدقائي، وإني فخور بهم،
يا الله يا أماه، ما أعمق الشعور بالفداء للوطن،
لا ما يعادله، أو يوازيه،»..
تخيلتها تبكي،
لكنها كانت تتحدث بثقة، كأنها مدفعيته، وسلاحه، وخوذته،
كأنها عيناه في غسق الدجى خلف مكبر تستقرب البعيد، تتفقد الساكن، والمتحرك،
هدير الطلقات ما عادت تخيفها هي، ولا توحشه هو،
أزيز الطائرات ليس غير شحنات تمكِّنه، وتمدُّه، وتمنحها قلقاً لكن يشوبه اطمئنان,
وجهها مغمور بحكايات وحكايات عن طموحه، ورغبته، حبوه، ونشأته، بزّته العسكرية وأحلام طفولته، تقول لي.. على الجبهة بني، عسى الله أخيّتي أن يجعل النصر على يديه، وأيدي من معه،
كلنا ننام في سعادة لأنهم هناك يسهرون في عزم..
صديقتي التي كانت تهاب صوت الطلقات، وتخشى اسم المعركة، وتوحشها مصطلحات الذخيرة، أصبحت تعدّدها في يسر، في طلاقة واطمئنان، في اعتداد، وفرح، وافتخار..
ابنها جندي في المعركة..
أجل، صغيرها كبر، لم يصبح طبيباً، بل عسكرياً ينخرط شحنة في عاصمة الحزم..
هذه التي تحولت إلى دافعية في قلب كل الأمهات لاستشعار الحس بمعنى الفداء،
الشهادة، وعز الوطن. بل في قلوبنا جميعنا.
أعادك الله لجناحيها مطمئنة هي، ومنتصراً أنت يا صغيرها، وصغيري عمر، وكذلك كل جنودنا وأنتم مكلّلون بالنصر.
اللهم آمين.