- 5 -
خواطر «ب» على الطريق الدائري / القاهرة
بدت حركة السيارات ذلك الصباح مثل نزوح أو زحف نحو شيء مجهول رغم أنه معروف جداً ومألوف جداً.. وقد يكون مملاً جداً أيضاً!! حركة هجرة تتكرر مرتين في اليوم ترغمك على التفكير في ما الذي يريده كل هذا الكم من البشر في حركته اللا نهائية؟!
السيارات تشبه البشر وتعبر عنهم، فالميكروباص الذي ينفث سواداً من عادمه دون اكتراث يشبه رجلا كبيرا ينفث التلوث من «أرجيلته» في وجه المارة غير عابئ بآرائهم وامتعاضهم على الدخان المخلوط برائحة فمه الكريهة! والسيارة الأنيقة المظللة تخفي سائقها عاقد الحاجبين الذي يقودها بملل، وقرف أيضاً ! وسائق الشاحنة الكبيرة الذي يستمع إلى أغان رديئة ويطلق «زموراً» بأنغام مختلفة ظاناً أنه يسلي السائقين!! والسائق الذي يدلّي يده من النافذة محاولاً استعجال ما لا يمكن استعجاله، يده بساعتها القديمة وخاتمها الكبير في الإصبع الصَّغير، راسماً ملمحاً جديداً للتناقض الصارخ ذلك الصباح! تضفي سيارة «الكنتاكي» شعوراً بالغثيان تبدأ به صباحك، وتنهي به مساءك فالغثيان مع «كنتاكي» لا يتغير!!
تضفي سيارات النقل الكبيرة نوعاً من «الأكشن» على الشارع بعيداً عن أنغام ذاك السائق وزموره، فهي تذكرك بأفلام الرعب الأمريكية التي ترتكب فيها الجرائم على قارعة طريق طويل ومظلم ومقطوع. هل فكر سائق سيارة النقل أنه يحمل ما يشبه الرؤوس التي تنتظر «الذبح»؟ كلما رأيت سيارته محملة بالبطيخ المغطى بالقماش خطر لي منظر الجماجم متراكمة! لا أحد ينقل التفاح الأخضر، فالمنقول إما طماطم أو بطيخ أحمر، أو في أحسن الأحوال إسمنت وقمامة معاد تدويرها أو ضغطها!
وأنا - في كل هذه «المعمعة» - أتخيل نفسي قد تحولت إلى ظعينة حين يبدأ السائق بتخفيف السرعة بسبب الزحمة، هودج وخمار وصحراء:
أفاطم قبل بينك متّعيني
ومنعك ما سألت كأن تبيني
- 6 -
رحلة عُمر/ة - المملكة العربية السعودية
في شهر يوليو أي بعد أربعة أشهر من بدء الثورة، قرر والداي (رحمهما الله) أن يجددا زيارتهما للأماكن المقدسة، وقررا اصطحابي معهما هذه المرة، وهي فرصة قد لا تتكرر في عمري مرتين. كنت متحمسة للغاية فجهزت نفسي كما يجب واشتريت حذاء، لا بد أن يكون هنالك حذاء في كل مناسبة هل تعتقد أن ذلك «هوس»؟ وجددت جوازي وبت مستعدة لهذه الرحلة، صحيح أنها لم تكن رحلتي البرية الأولى، لكن الوجهة والهدف مختلفين تماماً. لم تكن الحملة منظمة، فضلاً عن كونها تعذيباً في قيظ يوليو الحارق، وكان طريق السفر طويلاً ومرهقًا، فلم نصل دمشق إلا بعد عشر ساعات رغم أن الأمر في الظروف العادية يستغرق ستاً أو سبعاً والتأخير على الحدود بين سوريا والأردن لأنهم اكتشفوا عدم صلاحية أوراق أحد المسافرين أبقاه في مركز الحدود لساعات واضطررنا لانتظاره، ثم قرر مدير الحملة أن نتابع سيرنا على أن يلتحق بنا في مركز الأردن الحدودي مع سوريا، وهو ما حدث. كانت الرحلة مرهقة جداً إلى أن دخلنا الأراضي السعودية وكان المركز الحدودي مزدحماً بالمسافرين، ووصلنا المدينة بعد لأي للإحرام.
وصلنا مكة أخيرا. حين وقفنا أمي وأبي وأنا أمام الكعبة شعرت بأنني منفصلة عن الواقع وأنني لست هنا، لم أصدق، كنت أظنني أمام صورة فقط، بكى أبي وبكت أمي، كانت تلك لحظة لا يمكنني نسيانها، لحظة كان فيها خشوعهما يظللني ويمنحني السكينة كما فعل بيت الله الحرام. خلال الطواف لم أعد أرى أمي وأبي، افترقنا، وكانت بالصدفة إحدى زميلاتي في المدرسة تعتمر في الحملة نفسها مع زوجها وأبنائها، حين رأتني وحيدة في الطواف، دعتني لأنضم لها وأمسكت بيدي مثل طفلة تخاف عليها الضياع. ارتحت عند رؤية أمي باسمة في نقطة التجمع بعد انتهاء الطواف والسعي والتقصير، وارتحت لرؤية وجهها بعد أن غابت عني، لكني لم أر أبي، اتصلت به لأصف له الباب الذي تجمعنا عنده، لكنه قال: إن وصفي سيئ! ربما افترض أبي أنني علي أن أحفظ المكان من المرة الأولى، عليّ أن أعترف أنني لم أخبره يوماً بفشلي الذريع في مادة الجغرافيا نظرياً وعملياً فيما يبدو!
قضينا في مكة خمسة أيَّام وفي المدينة أربعة. خرجنا من مكة في وقت متأخر من الليل، وكان مدير الحملة يرغب أن يكون دليلنا السياحي، فأخذنا إلى جبل أحد - بعد منتصف الليل - والمكان الذي دفن فيه شهداء تلك المعركة، وما زلت لا أفهم ما المغزى من المرور بالجبل الذي لم نر أبعاده حتى، والأدهى أنه كان يحذرنا من لسع العقارب! كانت أمي طوال تلك الأيَّام مبتهجة بالسكينة وبالصلاة في الحرم المكي والنبوي بعد ذلك، ولم يكن أمر العودة يشغل بالها رغم ما كان يصلنا من أخبار واشتعال منطقتنا وحصارها من قبل جيش النظام. ذهبنا للتبضع أنا وأمي في الأيَّام الأخيرة ولشراء الهدايا المعتادة، وقد أصررت على شراء «تلفزيونات الحج» مثل تلك التي كنا نتلقاها حين كنا صغارًا، وما زلت أحتفظ بواحد منها توثيقاً لرحلة عمر، إن خانتني الذاكرة يومًا!.
- بثينة الإبراهيم