رغم فارق التوقيت بين الموت والحياة أنا صديقة «جبران خليل»، وهذا يخولني للحديث عنه بشكل إنساني، يبرر نهجه وسلوكه الاجتماعي والنفسي كما صورته لي صداقتنا.
ولا يمكن الحديث عن تجربة إنسان ما بمعزلٍ عن ظروفه التي تربى فيها، فكيف إذا كان الحديث عن «جبران خليل» الفيلسوف الإنسان!
إنسان لأن كتاباته موغلة في العمق الإنساني، ولا بد أنك شعرت بهذا في أغلب ما قدمه مما أمكنك فهمه.
في بداية الحديث أستطيع أن أقول: ليس كل ما كتب جبران يمكننا جميعًا أن نفهم أبعاده بنفس العمق، ليس لأننا كما يعتقد «قولك إنك لا تفهمني مديح لا أستحقه وإهانة لا تستحقها أنت»، بل لأن جبران شفاف جدًّا، ويبدو أنه علم هذا من نفسه فآثر أن يخفي هذه الشفافية بالوعورة التي تصادفنا أحياناً في أورقة معانيه. والسؤال: لماذا لجأ إلى هذا؟ وما العيب في كونه شفافًا؟!
وللإجابة أسألك: ما الذي تتوقع من طفل ينشأ فقيرًا إلى درجة العدم، أبوه لا يعبأ بشيء إلّا الهوى، قد انفصل عن أمه، وخرجت أسرته للمهجر، فتكالبت عليه الغربة والعزلة مع الفقر.. غير الوحدة والنفور من التقليدي؟!
جبران انتقد الأديان، وقف ضد التقاليد، طردته الكنيسة، ولم يرَ بعض الأدباء العرب في تلك الفترة جبران أديبًا وهو لم يرَهم كذلك - ولا بد أن هذا أثر في نفسه كأديب يقبع في المهجر، تتلقفه الثقافات في الوقت الذي نهرته فيه ثقافته ونهرها - فعاش واقعًا مريرًا تحت هذا الضغط؛ فنزح عن واقعه باحثًا له عن واقع جديد وراء الأفق، وليس هذا لأنه شغوف بالجديد لأنه جديد، بل لأن القديم تسبب في وجع بالغ له، ولن يستطيع لفت النظر إليه إلا من خلال سبر أغوار جديدة على نفسه، وبني قومه. ولا تتخيل أن يحلم إنسان بعالم وراء الأفق، وتأتي كتاباته واضحة؛ لأن الأفق وما وراءه غامض، وهذا زاد من اضطرابه وشروده عن نفسه التي يبحث عنها، ومات ولم يجدها.
جبران كان محاطًا بالأصدقاء، ورغم هذا بقي فكره راكضًا إلى ما وراء الأفق؛ ما يعني أنه كان بلا أصدقاء رغم الأصدقاء. وكلمة أفق أو ما وراء الأفق إن لم تجدها واضحة في سطوره فهي مغمورة في معانيه، وهي الدليل والبينة على وحدته وضياعه من نفسه.
رغم تخبط جبران بين الشرق والغرب بقي محتفظًا بشرقيته، ولم يتخلَّ عنها كأغلب رجال الشرق، ويتضح هذا من خلال تعامله مع الأنثى. فمثلاً «ماري هاسكل» دعمت جبران في بداياته، وتفانت حتى نهض على أقدامه، فظن أنها به متيمة إلى أن تقدم للزواج منها فرفضته؛ فكذب ظنه.
والمثال الآخر الذي برزت شرقيته من خلاله حين حاول تغيير مسار الأنثى التي أحب عن خطها الكتابي، فوجهها في أكثر من مرة لترك البحوث والتقليل من قيمة أصدقائها الشعراء إمعة في سيطرة الرجل على فكر وحياة الأنثى. أما الناحية العاطفية فأزعم أن مي زيادة كانت القشّة التي حاول أن يصالح الحياة من خلالها، ويجد نفسه التائهة، لكن الأقدار في النهاية كانت سبّاقة. أمثال جبران إذا لم يخطفه المرض تلقفه الجنون.. ويبدو أن هذه النقطة هي التي جمعت بينه وبين مي زيادة.
أستطيع اختصار حياة جبران بالآتي: كأن الحياة تركت جبران لنفسه فعاثت نفسه في نفسه ضياعًا وشرودًا. جبران وغيره حين يعاقر الغموض في كتاباته هو يكتب تحت تأثير نوبة نفسيّة عارمة في الغضب من الواقع، والهروب منه بنزعة إبداعية خاصة بمؤثراته. ولا يساورني الشك أن ظروف جبران صنعت منه كاتبًا وشاعرًا برتبة فيلسوف، بل أكثر برتبة إنسان. وإنكار عظمة جبران لأسباب شرعية أو دينية خطأ محض وضلال مبين.
- نادية السالمي