وهاتفين بشجوٍ بعد ما سجعت
ورق الحمام بترجيع وإرنان
باتا على غضن بان في ذرى فننٍ
يرددان لحونا ذات ألوان
من أجمل ما جاء في وصف الكلام العامي، قول صفي الدين الحلّي: الخارج عن لغة قومه لَحّان، فالهجات المحلية ما هي إلا (لحن قولي) معروفا ومشهورا تفرّق بين المدن والبلدان، فأهل مصر لهم عاميتهم، ولأهل العراق عاميتهم، وكذلك المغرب العربي، ومع ذلك لا تعد العامية لغة رسمية ولا يعد أدبها أدب رسمي يدّرس، بسبب شيوع الخطأ اللفظي والخروج عن قوانين النحو والصرف وما يغلب على معانيها من التفاهة والعرف، فأغلبها أخبار يومية مكررة، لكن الأدب يجمع بين أمرين، صحة اللفظ وقيمة المعنى وسموه، واللحن ظاهرة طرأت على المجتمع العربي وتفشّت فيه بعد دخول الأعاجم من غير العرب في الإسلام.
فاللغويون العرب اعتبروا اللحن عيبا من عيوب الكلام، إذ إن المجتمع العربي ينتقص من يلحن، بل وينتقص من يفهم الكلام الملحون.
فالعامية هي الفصحى لكن طرأت عليها أخطاء وتراكيب، تأثرت بها صحتها، ولتبيان أهمية دراسة النحو للعرب اسرد هذه القصة لأب يوسف ولكسائي : كان لأب يوسف ولكسائي يوما عند الرشيد، وكان أبو يوسف يرى أن علم الفقه أولى من علم النحو بالبحث والدراسة، وأن علم النحو لايستحق بذل الوقت في طلبه. فراح ينتقص من علم النحو أمام الكسائي.
فقال له الكسائي: أيها القاضي .. لو قدّمت لك رجلين، وقلت لك: هذا قاتلُ غلامِك . وهذا قاتلٌ غلامَك. فأيهما تأخذ؟
الاول بالضم بدون تنوين (قاتلُ) ?ضافته للاسم بعده (غلامِك) المجرور على أنه مضاف إليه.
والاخر بتنوين الضم (قاتلٌ) وإعماله في الاسم بعده (غلامَـك) المنصوب على أنه مفعول به ?سم الفاعل.
فأي الرجلين سيأخذه القاضي بالعقوبة ويقيم عليه الحد؟
فقال أبو يوسف : آخذ الرجلين.
فقال الرشيد: بل تأخذ الاول لانه قتل، أما الاخر فإنه لم يقتل.
فعجب أبو يوسف، فأفهمه الكسائي أن اسم الفاعل إذا أضيف إلى معموله (قاتلُ غلامِك) دل عل الماضي؛ فهو قتل الغلام. أما إذا نون فنصب معموله على أنه مفعول به (قاتلٌ غلامَك) فإنه يفيد المستقبل؛ أي أنه سيقتل.
فاعتذر أبو يوسف، وأقر بجدوى علم النحو وعهد ألا ينتقص منه أبداً..
(عجبتُ لمن لاحن الناس كيف لا يعرف جوامع الكلم)
أجمع علماء اللغة والنحو على اتّخاذ القرآن الكريم على رأس مراجع الاحتجاج في جميع علوم اللغة، لإثبات صحّة لفظ أو تركيب أو معنىً من المعاني، وذلك باعتباره قمّة البلاغة والفصاحة في اللغة العربية، وأعلى مراحل البيان العربي الذي أعجز العرب عن أن يأتوا بمثله، فقد سفّه أحلامهم، وسخر منهم، وتحدّاهم في عقر دارهم - وهم أهل الفصاحة والبيان - حين وصفهم بالعجز عن الإتيان بسورةٍ واحدة من مثله، ووصف الإنس والجنّ بالعجز عن الإتيان بمثله ولو كان بعضهم لبعضٍ ظهيراً.
ولقد لحنتُ لكم لكيما تَفْقَهُوا
وَوَحَيتُ وَحْيا ليس بالمُرتابِ
وقال ابن خلدون وهو يتحدث عن أثر المخالطة في انحراف الألسن: «ولهذا كانت لغة قريش أصح اللغات العربية وأصرحها لبعدهم عن بلاد العجم من جميع جهاتهم، ثم من اكتنفهم من ثقيف وهذيل وخزاعة وبني كنانة وغطفان وبني أسد وبني تميم. وأما من بعد عنهم من ربيعة ولخم وجذام وغسان وإياد وقضاعة وعرب اليمن المجاورين لأمم الفرس والروم والحبشة، فلم تكن لغتهم تامة الملكة بمخالطة الأعاجم، وعلى نسبة بعدهم من قريش كان الاحتجاج بلغاتهم في الصحة والفساد عند أهل الصناعة العربية».
النحو يصلح من لسان الألْكنِ
والمرء تُكْرمه إذا لم يلْحَنِ
وإذا طلبتَ من العلوم أجلّها
فأجلّها منها مُقيمُ الألْسُنِ
إننا لا نستطيع أن نصف العلاقة بين العربية الفصحى والعربية العامية بأنه صراع، لكنه شذوذ وخروج عن الأصل لا ننكره أو نتجاهله، فاللغة الأم موجودة في حياتنا الثقافية، وفي كتابتنا، وفي مظاهر الرقي والتقدم، وهي عنوان الثقافة والعلـم.
«ما رأيت رجلاً قط إلا هبته حتى يتكلّم، فإن كان فصيحاً عَظُمَ في صدري، وإن كان قصّر سقط من عيني».
دخول المزيد من غير العرب في الدين الإسلامي ومحاولتهم تعلم العربية وقراءتها، خلق المزيد من التلحين المبالغ للغة لعدم وجود الحركات على الأحرف، وكمثال على ذلك: كلمة «كتب» لها عدة معاني، فهي تعني كَتَبَ وكُتِبَ وكُتُب. فتم بعد ذلك إدخال الحركات على الحروف، وهذا يعتبر من مكافحة تلحين اللغة والحفاظ عليها.
وأول من استخدم الحركات على الحروف كان أبي الأسود، وكانت تختلف في رسمها عن الحركات اليوم فقد رسمها بحبر أحمر وكانت على هيئة نقاط. وقد وصلنا ما أخبر أبو الأسود كاتبه أن يفعل إذ قال له: «خذ صبغاً أحمر فإذا رأيتني فتحت شفتي بالحرف فأنقط واحدة فوقه وإذا كسرت فأنقط واحدة أسفله وإذا ضممت فاجعل النقط بين يدي الحرف (أي أمامه) فإذا اتبعت شيئاً من هذه الحركات غنة فأنقط نقطتين».
- أحلام الفهمي