في حديث أخوي مع الصديق والزميل المحامي المعروف الأستاذ صلاح الحجيلان، ذكر لي بعضاً من المعاناة التي مر بها عندما تلقى وهو في سويسرا نبأ وفاة أخيه الأستاذ سعود بن إبراهيم الحجيلان رحمه الله رحمة واسعة، والصعوبات التي واجهها في ترتيب حجز طيران يمكّنه من العودة إلى الرياض في الوقت المناسب للمشاركة في الصلاة على أخيه وتلقي العزاء مع بقية الأسرة فيه، وقد تطرق في حديثه إلى نخوة الأمير عبدالعزيز بن فهد بن عبدالعزيز وشهامته وما قام به تجاهه خلال هذه التجربة الصعبة لتمكينه من العودة إلى الوطن في الوقت المناسب. وقبل أيام قليلة انتشر في وسائل التواصل الاجتماعي تسجيل مصور للأمير عبدالعزيز وهو يكرّم مع فضيلة العالم الزاهد الشيخ عبدالله المطلق مجموعة من الطلاب من جمعية تحفيظ القرآن في الرياض، كما نشرت له صورة وهو يحضر درساً من دروس فضيلة الشيخ الرباني الدكتور ناصر العمر في أحد مساجد الرياض، وفيما بين بساطة التسجيل المصور والصورة وعفويتهما وحديث الأستاذ صلاح الحجيلان تداعت في ذهني ذكريات كثيرة عن الأمير عبدالعزيز الذي لا تربطني به أي علاقة دنيوية على الإطلاق سوى معرفة أخوية مبنية على الاحترام والتقدير المتبادلين كانت بدايتها عندما كان طالباً في جامعة الملك سعود وكنت حينها عميداً لكلية التربية فيها، وقد كان يأتي إلى كلية التربية لحضور محاضرات في مواد الثقافة الإسلامية، وكنت أسمع من أساتذته عن حرصه على التعلم وتعلقه بالمعارف الإسلامية وسعيه الحثيث للاطلاع على كل جديد فيها والتعرف على كل عالم أو مفكر له إسهامات في مجالها. حدثني أخي وزميلي العزيز الأستاذ الدكتور حمدان الحمدان أستاذ العقيدة ومقارنة الأديان في جامعة الملك سعود ورئيس قسم الثقافة الإسلامية فيها لسنوات عديدة، أنه على الرغم من عدم تدريسه للأمير عبدالعزيز أياً من المواد التي درسها في قسم الثقافة الإسلامية بجامعة الملك سعود إلا أنه كان يلتقي به في القسم وكان معجباً بذكائه وبساطته وتواضعه وحرصه على التعلم، وقبل ذلك وبعده بأدبه الجم وتقديره الكبير لمن هم أكبر منه سناً وحرصه على عدم الظهور بأي مظهر يوحي بأنه ابنٌ لملك.
التقيت بالأمير عبدالعزيز أول مرة بعد تخرجه من الجامعة بسنوات في إحدى المناسبات الاجتماعية في الرياض، وقد لفت نظري تلطفه مع كل من يلقاه واحترامه للآخرين أياً كانوا وبخاصة من هم أكبر منه سناً، ثم توالت لقاءاتي به في الرياض وفي مناسبات خارج المملكة أتيح لنا في بعضها أن نتحاور حول قضايا الوطن والأمة، وقد لفت نظري ذكاؤه ومتابعته الجادة وسعة اطلاعه برغم صغر سنه في ذلك الحين. كان متابعاً للشأنين الداخلي والخارجي بشكل ملفت للنظر، وكان حريصاً على الوفاق وإبعاد المجتمع عن مهالك الفرقة والتناحر، كما كان حريصاً على دعم العمل الإسلامي النقي في كل مكان ونشر الإسلام بالوسائل المتحضرة.
لم تقتصر معرفتي بالأمير عبدالعزيز على ما أتيح لي من الإطلاع عليه بشكل مباشر، وإنما عرفت عنه الكثير ممن عملوا معه أو صحبوه وخبروه عن قرب لفترات طويلة، منهم الصديق العزيز الكاتب الكبير الأستاذ سمير عطاالله، والصديق العزيز أستاذ الأقتصاد الدكتور أنور الجبرتي، والصديق العزيز الكاتب والمفكر الدكتور فهد الحارثي، والصديق العزيز المستشار الاقتصادي الدكتور عبدالرحمن العطيشان، الذين زادوا محبتي وتقديري للأمير عبدالعزيز بما رووه وتحدثوا عنه من مكارم أخلاقه وطيبته وبساطته وحبه للخير وفقه الله. شاركت وآخرون معه في افتتاح المركز الإسلامي في مدينة لوس أنجيلوس الذي تبرع بإنشائه الملك فهد بن عبدالعزيز رحمه الله في عام 1995م، ورأيت عن قرب فرحته وبهجته بكل إنجاز إسلامي أصيل، وبكل خطوة تسهم في تعريف الناس بحقيقة الإسلام وتصحيح مفاهيمهم المغلوطة عن المسلمين، وتنويرهم بحقيقة المملكة وحرصها على كل ما فيه خير للإنسانية جمعاء. في حفل افتتاح المركز الإسلامي الذي أشرت إليه ارتجل الأمير عبدالعزيز كلمة مختصرة فاجأت الحاضرين سواء من المسلمين أم غير المسلمين، وهي متاحة في اليوتيوب لمن أراد الاطلاع عليها، وقد كان من أهم ما جاء فيها قوله: «إن الدين الإسلامي يشمل كل معاني المحبة والسلام والوئام والخير للبشرية، وينبذ كل أنواع التطرف والعنف والإرهاب والعدوان، وفي الوقت نفسه لا يرضى أن يعتدى عليه، وليس في الدين الإسلامي أي شكل من أشكال العنصرية فالناس سواسية عند الله سبحانه وتعالى (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) والتفاضل هو بالقرب من الله سبحانه وتعالى، وسيكون هذا المسجد بإذن الله تعالى وسيلة للحوار البناء والهادف بين المسلمين وغيرهم وكل ما فيه خير للبشرية جمعاء». وكما هو واضح من هذه الكلمة رغم كونها مرتجلة فإن مما تميّز به الأمير عبدالعزيز حفظه الله فطرته السوية وتدينه النقي، اللذين يظهران بجلاء في كلامه وتصرفاته، وكل من يعرفه ويعرف البيئة الأسرية التي نشأ فيها يعلم أن والدته حفظها الله كان لها الأثر الأكبر في هذين الجانبين. ولو طلب مني أن أختصر حقيقته في صفة واحدة لقلت على الفور: إنها إنسانيته التي اشتهر بها، فقد اطلعت بشكل مباشر على هذه الإنسانية في تجليات كثيرة لها، حيث ما اطلع على معاملة لمظلوم إلا وهب لنصرته، وما توسط أحد عنده لمريض يحتاج علاجا أو ذي عوزٍ يطلب عوناً إلا استجاب له منتشياً كأنه المعنيبقول زهير ابن أبي سلمى:
أخي ثِقةٍ لا تُتليفُ الخَمرُ مَالَهُ
وَلكنّهُ قَدْ يُتلِفُ المَالَ نائِلُهْ
تَراهُ إذا مّا جِتَهُ مُتَهَلِّلَاً
كَأنّكَ تُعطيهِ الذي أنت سائِلُهْ
ورث عن والده حدة الذكاء والطيبة الفطرية وحب الخير للناس أجمعين، ولعل ملازمته اللصيقة لوالده رحمه الله هي التي جعلته يقتبس كثيراً من سماته وصفاته. من أهم ما تميز به شغفه بالثقافة وحرصه على مصادقة العلماء والدعاة والمفكرين والكتاب، فلا يخلو مجلسه من نخب منهم سواء في حله أو ترحاله، ولا يحرص على شيء مثل حرصه على أداء ما يفرضه الشرع من إجلال العلماء وتوقيرهم وإنزالهم منزلتهم اللائقة بهم.
تعرض، وللأسف الشديد، في السنوات الماضية لوعكات صحية متتالية أبعدته عن الوطن وعن مهامه الرسمية لفترات طويلة، وقد سرني كثيراً أنه تجاوزها بفضل الله وتوفيقه، وعلى الرغم مما أحمله له من محبة وتقدير، إلا أنني وللأسف الشديد لم أتواصل معه منذ زمن ليس بقصير لانشغالاته الكثيرة وانشغالاتي، وقد وجدت من واجبي بعد أن استثارت التسجيلات المصورة وما رواه أخي الأستاذ صلاح الحجيلان من ذكرياتٍ عزيزة عنه، أن أشيد بما من الله به عليه من مكارم الأخلاق وما أكرمه به من حب للخير وحرص على دعم الأعمال الخيرية والدعوية، مغتنماً هذه المناسبة لمناشدته بأن يبادر بإنشاء مؤسسة فكرية ثقافية عالمية تسهم في التعريف بالحضارة الإسلامية يكون لها دور في تنوير شعوب العالم عن حقيقة الإسلام وتاريخ المسلمين، ومد جسور الحوار الإيجابي بين جميع الثقافات وحبذا لو كان من ضمن اهتماماتها التعريف بحقيقة الدعوة الإصلاحية التي قادها الإمامان محمد بن سعود ومحمد بن عبدالوهاب رحمهما الله، وإجراء الدراسات والبحوث العلمية لتجديدها وتنقيتها مما علق بها مما ليس منها لتواكب المرحلة التاريخية الراهنة، فما أحوجنا لمثل هذه الأعمال في ظل ما تواجهه المملكة من حملات ظالمة تشنها أطراف عديدة للتشكيك في المبادئ والأصول التي قامت عليها، وتشويه الدعوة التجديدية المباركة التي حملت لواءها منذ تأسيسها.
- بقلم / د. أحمد التويجري