عبدالعزيز السماري
أثبت العقل البشري قدراته المتناهية على خلق المعجزات، وعلى تحويل أسرار الطبيعة إلى أغراض تخدم الحاجة الإنسانية، وقد شهد التاريخ البشري تحولات كبري في الاكتشافات العلمية، لكن التأمل في عظمتها يتضاءل بمرور الوقت، ثم يعود البشر إلى كهوفهم المظلمة، وإلى الانقياد الأعمى خلف أئمة الجهل ودعاة الشر، ولهذا نحتاج إلى التذكير بتلك التحولات الكبرى في تاريخ الإنسان.
كان اكتشاف البنسلين عظيماً بكل المقاييس، فقد كان الفتح الذي بدأت من بعده عالم المضادات الحيوية ضد الالتهابات البكتيرية، وجاء بعد أن لاحظ الكسندر فليمنج بعض العفن الذي ينمو على صحون البكتريا، ولاحظ أن كل البكتريا المحيطة بهذا العفن كانت قد ماتت، ليكتشف أنها من فصيلة اسمها البنسلين، وهكذا أمكن الدكتور ألكسندر فلمنگ من اكتشاف العقار الجديد عام 1929. وإن لم ينل اعتراف الدوائر الرسمية أو الطبية أو الشعبية، إلا بعد أن أثبت نجاعته في معالجة جرحى الحرب العالمية الثانية.
كان استحضار مادة الكورتيزون في المختبر مفصلياً في تاريخ الإنسان مع المرض، وقد تم اكتشافها لأول مرة من قِبل الكيميائيين الأمريكيين إدوارد كالفين كيندال وهارولد ميسون أثناء إجرائهم بحوثاً في مايو كلينيك، ومُنح كيندال جائزة نوبل في الطب عام1950 مع فيليب هنش وتاديوس رايخشتاين مقابل اكتشافه العظيم، وقد فتحت هذه المادة المجال لبدء مرحلة معالجة فصل كامل من الأمراض التي لها علاقة بالخلل الوظيفي في الجهاز المناعي.
في عام 1974، نجح الروسي سفياتوسلاف فيودوروف في إزالة الزجاج من عين الصبي بعد حادث، وكان الصبي قبل الحادث يعاني من قصر نظر شديد، وبعد سقوطه على نظارته أصابت جزيئات الزجاج قرنيته، واضطر فيودوروف إلى إجراء العديد من الشقوق الشعاعية التي تمتد إلى محيط القرنية، وبعد إزالة الزجاج والتئام القرنية، اكتشف فيودوروف أن قصر النظر عند الصبي تحسن بشكل ملحوظ، وكان ذلك مفتاح الحل لمعالجة قصر النظر كما هي في زمننا الحاضر.
كان العامل المشترك بين هذه الاكتشافات وغيرها التأخر في تقدير عظمتها، وعادة تواجه الاكتشافات العظيمة بقدر كبير من الحذر قبل أن تنطلق، وتأخذ الحيز التي تستحقه في مجالها، وتواجه في الوقت الحاضر بعض الاكتشافات العظيمة بعض الحذر غير المبرر، لكنها ستأخد مسارها لسبب رئيسي، وهو حاجة الإنسان وتجاربه عبر السنين.
كان آخر هذه المحطات العظيمة اكتشاف الخلايا الجذعية، والتي لازالت قدراته تصارع عالماً من المصالح التجارية المتضاربة والحذر من آثارها غير المتوقعة، والخلايا الجذعية هي المعجون الخلوي التي تخرج منه جميع أنسجة الجسم، وبعد نجاح الإنسان في زراعة الخلايا الجذعية الجنينية البشرية لأول مرة في المختبر، بدأت أحلام الإنسان في استخدامها لترميم أجهزة الجسم المصابة، وفي إصلاح الأنسجة التالفة أو إنشاء أجهزة جديدة.
أفصحت الأبحاث الطبية العديدة على قدرتها على ترميم الأنسجة التالفة، وكان أهم نتائجها علاج مرض السكر ومساهمتها في شفائه لحد كبير، وتقدر عدد التجارب التي تستخدمها لعلاج الأمراض بأكثر من مائتين محاولة، وأصبحت مصدراً للتجارة في كثير البلاد الخارجة عن سيطرة الاقتصاد الطبي الغربي، وتواجه الآن ما واجهته عمليات تشطيب القرنية واكتشاف البنسيلين، وهي في طريقها لكسب المعركة، فالتجارب الشخصية والدراسات الطبية حول العالم تثبت قدرتها على صنع المعجزات.
ما ذكرته أعلاه يمثل بعض الإضاءات من الجانب المشرق في تاريخ الإنسان على كوكب الأرض، لن يتسع المجال لرصد المزيد منها، لكنها دائماً ما تجعلني أتساءل كيف يقبل الإنسان طواعية أن يعيش في الظلام وفي درك الكراهية، وهو يدرك أن ذلك حدث فقط بسبب إطلاق العقل البشري للعمل بدون قيود أو أفكار تسلب أرادته، وبرغم إدراكنا لها، لازال بعضنا يصرف كثيراً من الجهد والطاقة في طاعة دعاة الظلام وسفك الدماء من جميع الثقافات والأديان.
نحن في أمسّ الحاجة للخروج من الانقياد الأعمى للعقل خلف الدموية والعدوانية، وأن نمنح عقولنا بعضاً من الاستقلال والفهم والإدراك، وقبل ذلك أن نتحرر من سلطة الظلام، وأن نخرج إلى حيث النور الذي جاء بمثل هذه الاكتشافات العظيمة، وأن نصل إلى قناعة إن هذا هو الطريق إلى الله عزّ وجلّ، وأنّ من يروّجون للخروج على العالم شاهرين سيوفنا ليكون أمام خيارين إما الجزية أو الموت، لا يمثل جوهر دين الله، ولا يمكن أن يكون طريقة مثلى للتواصل مع خلق الله تعالى، بمختلف ألسنتهم وألوانهم وثقافاتهم وآلهتهم، والله المستعان.